لايزال ريفنا السودانى الحبيب يقدم أجمل مورثاته وعاداته وتقاليديه الإجتماعية التى تؤكد أصالة معدنه لم تغيره الظروف المختلفة التى مر بها طوال سنوات تخللتها سنوات صعبة وأخرى سهلة ،لكنه إستطاع أن يطوع صعبها ويتعايش معها بصبر وعزيمة لاتلين ، وهذا عهده فى السراء والضراء لذا تجده متوزانا فى حياته إلا بعضا من أفراده الذين يشذون عن القاعدة وهذه طبيعية البشر التى تلازمهم أينما حلوا ، وكم من العادات الجميلة التى نفتقدها فى مجتمعات المدن الحواضر ونجدها تحتل مكانها فى مجتمعات الريف حيث ينشأ الناشئة عليها ولايجدون صعوبة فى التعامل بها ونقلها الى الأجيال التى تأتى من بعدهم وتستمر مسيرة العطاء المجتمعى متجذرة فى أعضائه يحافظون عليها ويتحفون بها من يأتى إليهم خاصة من خارج البلاد ، فأغلبهم تتملكهم الدهشة لما يشاهدونه بأم أعينهم وكما نعرف أنه ليس من رأى كمن سمع ، فيعودون الى دولهم لينقلوا جميل ما شاهدوه من عادات وتقاليد لم يشاهدوا مثلها من قبل ، فهل تسطيع مجتمعاتنا فى الريف أن تقدم مزيدا من الإبداع الإجتماعى الذى يدهش الآخرين؟.
وحكاية من حلتنا سنحت لها الفرصة أن تشاهد من جميل تلك الموروثات الإجتماعية فى ريف كردفان الغرة التى تستوطن فيها عائلتي الكبيرة وهى موطن الأجداد والآباء والنشأة ، وكان قدرنا بأن نغادرها مثل سنوات خلون بغرض العمل والدراسة الى عاصمة البلاد التى إستوعبت ملايين من أبناء الريف فى مختلف الأعمال والمهن والوظائف وأصبحت لهم موطنا ثانيا إستقروا فيها لسنوات تطول وتقصر، وتأتى حرب الخامس عشر من أبريل لتعيد أكثرهم الى مواطنهم الأولى التى فتحت قلوب أهلها وأبواب منازلها لتقول لهم مرحبا بكم فى دياركم التى غيبتكم عنها ظروف المعايش والسكن والتعليم ، فيا لهم من أهل رائعون قدموا لنا درسا فى الوفاء وطيب وأصالة معدنهم الذى يزداد لمعانا وبريقا ، فإن شكرناهم هم أهل للشكر وأن قصرنا فى شكرهم فإن الله سيجزيهم خيرا بما فعلوه وقدموا لمن أتاهم وهو محتاج لوقفتهم بالقليل قبل الكثير .
وعموما فقد وجدنا مجتمع الريف محافظا على أحد تلك المورثات الإجتماعية خاصة فى مثل هذه الأوقات التى تعرف عندهم بفصل الخريف المعطاء ، حيث تجود السماء بماء يحتاجه الإنسان والحيوان والنبات ، فيسقى الأرض فتحيا بعد موتها وتخضر بأنواع مختلفة من الأشجار والنباتات والحشائش وتمتلأ سهولها ووديانها بالماء الذى لاحياة بدونه ، وهنا أقول أن المرأة هى شيالة التقيلة مع زوجها تؤدى دورها فى التربية والتنشأءة وتساهم فى العمل، ورغما عن ذلك فلها مبادرات إجتماعية مختلفة لاتنعزل عن مجتمعها المحيطة بأدق تفاصيله ، وأحد مبادراتها أنها تتكاتف وتتعاون للقيام بصنع وجبة تسمى (مجيبيرة) يخرجن بها خارج المنازل تحت أحد أشجار النيم وهى بليلة مكونة من مختلف الحبوب يتم جمعها من الأسر وتنظف جيدا من الأوساخ والأتربة والغبار ثم توضع فى قدر كبير على النار حتى تنضج ، وهن حضورا مع بناتهن وأطفالهن الصغار يتعلمون كيف يتم إعداداها ومن ثم توزيعها للجميع ليتناولونها وهم يدعون الله سبحانه وتعالى أن ينزل الغيث النافع وأن يذهب البلاء والإبتلاء عن البلاد والناس وتجدهن يرددن (كرامة البليلة البترفع التقيلة) والدعاء بأن يتقبل الله عملهن ، فكل نساء بلادى فى خدمة مجتمعهم يتقدمن الصفوف فلهن أجمل التحايا والتقدير.