بقلم : زين العابدين صالح عبد الرحمن
أن إشكالية السياسة في السودان سادت فيه الرغائبية، و هي فلسفة الحلم و هي تؤسس ليس على معطيات الواقع و لكن على خيال صاحبها، و النخب الرغائبية هي التي تحاول أن تكيف الواقع و أحداثه وفقا لأحلام لا تتحقق، لأنها لا تقوم على الحقائق في الواقع، و هي إشكالية لأنها تحاول خداع النفس قبل الأخرين. و رغم أن الخيال مطلوب في السياسة لكن ليس بهدف تشييد بناءت دون ملامسة للواقع، بل كيف تستطيع توظيف ما هو موجود في الواقع في البناءات التي تريد. و أيضا الرغائبية تجعل صاحبها لا ينظر للواقع بالصورة التي تجعله من خلال الواقع يحدد أهدافه، بل تجعل لديه فكرة واحدة لا يستطيع التفكير بغيرها، و هي التي تشكل عنده هذه الرغائبية. الفكرة الواحدة تتمحور حول المصلحة الضيقة. و الأحداث مهما صغرت لابد أنها تؤثر في الأجندة المطروحة و تحدث تغييرا في تسلسلها، لكنها لا تؤثر عند الرغائبي لأنه لم يتعود أن يحدث تغييرا في سلم أولوياته يتماشى مع المتغيرات، هذا هو المنهج السائد في السياسة السودانية، مهما حدث من تغييرات و نزاعات و حروب لا تؤثر في طريقة التفكير السائد، ليس عند العامة بل عند النخب السياسية و تطال حتى المثقفين.
الأحزاب التقليدية، يمثلها التقليديون. و في الصالات الأكاديمية يطلق عليهم ” المحافظون” هؤلاء الأكثر اعتراضا و تحديا لعملية التغيير في المجتمع. و المحافظون دائما يميلون حماية لمصالحهم، و لذلك لا يرغبون في التغيير. لكن لا يشمل القاعدة الاجتماعية العريضة، فالتغييرات التي تحدث في التعليم و توسعه في المجتمع، و أيضا التطور الاقتصادي، و توسيع مواعين الديمقراطية، و اتساع رقعة الحرية لتنهض فيه الصحافة و الإعلام، و تعدد منظمات المجتمع المدني كلها تدفع القاعدة أن تتمسك بالتغيير، لأنه يحقق أمالها و مصلحها. إلا أن الرغائبية و التقليدية عندما تكون سمات داخل التنظيم السياسي الواحد تقعد به، و تعطل كل أدواته الديمقراطية، و تقلص مساحة الحرية و تصبح هناك فئة ضيقة جدا في التنظيم هي التي متاح لها عملية التفكير بما يرضي تلك القيادات القابضة على مفاصل المؤسسة الحزبية، و لذلك لا تستطيع المؤسسات الحزبية أن تستفيد من التجارب لمحدودية مساحة الحرية التي يوفرها هؤلاء الرغائبيون و التقليديون، و أي تفكير خارج الصندوق يعني الخروج من التنظيم.
الصراع السياسي ليس قاصرا على السلطة فقط، هناك مساحات كبيرة يمكن الاستفادة منها لكي يحدث التغيير، مادامت هناك رغبة واسعة في المجتمع للتغيير. لكن عندما يسجن المثقفون أنفسهم في دائرة انتماءات ضيقة، و لا يريدون التفكير خارجها لا يستطيعون أن يفكروا برؤى جديدة، بل يعيدون ذات التفكير الذي قاد إلي الأزمات السابقة، و مثل هذا التفكير لا يحدث تغييرا لا في الوعي، و لا في الأدوات الصدئة التي يجب اعادة النظر فيها، عندما انفجرت ثورة ديسمبر 2018م، من خارج اسوار الأحزاب كان الأمل أن هذه الثورة تخلق قيادات جديدة تكون قد درست كل التجارب السابقة، و لا تكون مخيلتها مركزة على السلطة، بل على كيفية العمل من أجل بناء دولة على أسس جديدة، و تفجار الثورة خارج دائرة الأحزاب؛ كان يتطلب على القيادات السياسية أن تخضع تجربتها للنقد، لماذا فشلت هي في تعبئة الجماهير طوال هذه السنين، و ما هي العوامل التي جعلت الشباب يواصلون التظاهرات قرابة الست شهور رغم قمع السلطة،؟ و هل هذه الظاهرة سوف تؤثر على مستقبل الأحزاب سلبا أو إيجابا؟، و لكنها لم تفعل بل فكرت في شيء واحد كيف تسطو على الثورة و تقبض على مفاصلها دون أن يكون لها برنامجا واضحا يمكن ان تحاسب عليه. كان لابد أن تنزلق الثورة للفشل. هناك من يقول: أن العسكريين و الكيزان سبب الفشل. و هل الأحزاب لم تتحسب للتحديات التي سوف تواجهها؟ الآ تعلم هذه القيادات أن حكم ثلاث عقود جعل هناك كتلة كبيرة ارتبطت مصالحها بالنظام السابق سوف تشكل لها تحديات؟ و معلوم بعد أي ثورة؛ أن العملية السياسية لا تسير على خط مستقيم، بل تواجهها العديد من العوائق و التحديات، و من المفروض أن تزيدها قوة و صلابة، و تجعلها تغير تكتيكاتها بصورة مستمرة حسب الحاجة لكي تصل لأهدافها، و السياسة لا تقبل الصلابة التي تكسرها بل تحاج أيضا للمرونة دون الانحراف عن الأهداف. لكن ذلك لم يحدث….!
انزلقت البلاد للحرب، و شهدت البلاد أكبر مأساة في تاريخها المعاصر، و ظلت العقول كما هي كأن شيئا لم يكن، لم يحدث أي تغيير في طريقة التفكير، لا تجد هناك فارقا بين العامة و نخبته التي من المفترض أن تقوده لأهداف الثورة فالكل يحاول أن يبحث عن تبرير و لا يواجه المشكل من خلال نقد التجربة لكي تتبين الأسباب الرئيس للفشل. أن الرغائبية في السياسة تهزم الأهداف العظيمة، و التقليديون سيظلوا يشكلون أكبر عائقا للتطور و الديمقراطية لأنهم لا يستطيعون النظر ابعد من موطيء اقدامهم، فالحرب سوف تفرض واقعا جديدا يجب التعامل معه بجدية و بممارسة النقد، أن الأجيال الجديدة مطالبة أن تفكر بعيدا عن طريقة التفكير التقليدية، فالجماهير عندما وقفت بإرادتها مع قواتها المسلحة كانت واعية لموقفها، و غدا ستكون أكثر وعيا عندما تصبح القضية المطروحة التحول الديمقراطي هي تعرف ترتيب أولوياتها تماما. نسأل الله حسن البصيرة.