بقلم: زين العابدين صالح عبد الرحمن
أن السياسة و حل تعقيداتها لا تعتمد على الخيال وحده، بل لابد من معرفة تناقضات الواقع و المكانزمات التي تحرك هذا الواقع، و معرفة الأهداف التي يراد تحقيقها من الفعل السياسي، و التعامل مع الشأن السياسي و أفرازاته لا يؤسس على العواطف و الرغائب إذا كانت شخصية أو تحالفية للجماعات المختلفة، بل يؤسس على معرفة الرؤية المراد تحقيقها على الواقع، أو حتى تقديمها كمبادرة يراد بها حوارا ينقل الناس من حالة الاحتقان و التصلب في الرأي إلي الانفتاح على الأخر، بهدف أمتصاص حالة الغضب السائدة في المجتمع، و نزع الفتيل الذي يؤدي إلي النزاعات و الحروب المحتملة، و في حالة الحرب الجارية يجب تقديم التنازلات التي تجعل الحوار ممكنا، و تجنب فرض الشروط على الآخرين. السؤال هل القوى السياسية السودانية عندها الاستعداد للحوار دون شروط؟ أم أن الأغلبية ماتزال تعتقد أن العقل السوداني لا يملك القدرة على التفكير الصحيح لحل مشاكله، و بالتالي الاعتقاد أن المجتمع الدولي هو الذي يستطيع وحده أن يقدم الحلول؟ السؤال المهم ما هي القوى التي يقع عليها عبء اقناع ميليشيا الدعم بأن دورها قد انتهى، و يجب عليها أن تخرج من منازل المواطنين و كل المؤسسات الخدمية؟ السؤال الأخير كيف تتعامل النخب الواعية مع التحديات تتجاهلها أم تدخل معها في تحدي حتى كسر العظم؟
في 3 سبتمبر كنت قد كتبت مقالا بعنوان ” هل البرهان وحده يصنع رهانات السياسة” كان الهدف من المقال أن صانع الأحداث وحده هو الذي يضع معالم الطريق، و هو وحده الذي يفرض الأجندة على الآخرين، خاصة أن القوى السياسية أصبحت تعلق فقط على الأحداث، و ليست صانعة للحدث، و قلت في مقدمة المقال (الناظر للسياسة إذا كان في السودان أو أي دولة أخرى في العالم، يبدأ برصد الأحداث التي تفرض ذاتها على الساحة لمعرفة القوى الصانعة للأحداث، و كيف يجري التفاعل معها، خاصة القوى التي تملك مكنزمات الحركة السياسية. بعد الحرب التي بدأت في 15 إبريل 2023م صعد الجيش و ميليشيا الدعم السريع المتحاربين في صناعة الأحداث، و تراجع دور الأحزاب السياسية، باعتبار أن قرار استمرار الحرب و إقافها يتركز علي المتحاربين، و ظلت الأحزب تراقب أو تقدم بعض الرؤى لوقف الحرب و لكنها اجتهادات على هامش الحدث. بعد خروج الفريق أول البرهان القائد العام للجيش أصبح هو الذي يصنع الحدث من خلال تصريحاته في جولته على معسكرات الجيش المختلفة و غيرها،) فالقوى السياسية أصبحت حركتها محدودة، و قدرتها على المنافسة في صناعة الحدث قلت كثيرا، لأنها غدت عاجزة أن تقدم مبادرات تجذب قطاع واسع من الشعب و تجعله يتفاعل معها، و تضع مصالحه في مقدمة الأجندة، الكل منتظر الجيش أو ميليشيا الدعم أن يصنعا الحدث، ثم يصبح دورهم شرح متن خطاب الحدث. العديد من الذين تجاوبوا مع ما كتبت يعتقدون أن القوى السياسية ضعيفة، و الأحداث كانت أكبر من قدراتها. و هذه إشكالية أن العديد من السياسيين عندما يتعرضون لامتحان و تحديات، تجدها تفضح قدراتهم، مما يدفعهم للبحث عن شماعات يعلقون عليها أخطائهم. و رغم شعارات الديمقراطية تجد أغلبهم لا يحبون منهج النقد. و يرجع ذلك لضعف الثقافة الديمقراطية في المجتمع، و الكل يتعامل بالثقافة التي خلفها النظام الشمولي، و يستخدم ذات مصطلحات الإقصاء و الإبعاد.
واحدة من مقترحات الحلول التي يجب التوقف عندها. جاءت من الدكتور الشفيع خضر باعتباره أحد مفكري اليسار الحر ” غير منتمي” في مقال كتبه بعنوان ” آليات مقترحة لوقف الحرب في السودان” تحدث فيه عن ورشة عقدت في أديس ابابا للقوى المدنية بهدف تقديم حلول للأزمة و الحرب في السودان. كتب يقول ( انتظم المشاركون في الورشة في عصف ذهني توافقوا من خلاله على مجموعة من الحقائق، منها أن هذه الحرب خلقت واقعا جديدا يجب أن يغيّر في طريقة تفكير القوى المدنية في التعاطي مع تداعيات الأحداث الراهنة، وأن هذا الواقع لابد أن تكون له مستحقاته العملية، ومن هذا المنطلق فإنه يجب النظر إلى كارثة الحرب في سياقها التاريخي حتى يتمكن السودانيون من فتح صفحة جديدة في كتاب تاريخهم، وذلك بالتمعن في الأسباب الجذرية للحرب.) أن الحرب بالفعل فرضت واقعا جديدا يحتاج إلي طريقة تفكير جديدة. و السؤال كيف تستطيع قوى سياسية عاجزة على صناعة الحدث أن تغير طريقة التفكير السائدة في البلاد؟ و ما هي الأدوات المطلوبة لكي تتلاءم مع طريقة التفكير الجديدة؟ و هل المنهج التبريري و البحث عن شماعات لتعليق الأخطاء هو الذي سوف يخلق طريقة جديدة للتفكير؟ أسئلة تحتاج إلي إجابات.
أن الأفراد الذين يستطيعوا تغيير طريقة التفكير القديمة في المجتمع، هم القادرين على استخدام العقل الممنهج و الفكر في دراسة الواقع، و من خلال طرحهم لأسئلة جديدة تغير المنهج القديم القائم على العاطفة و الولاءات الضيقة، و الشللية و التخندق في المواقف التي اثبتت فشلها منذ أول انقلاب في البلاد عام 1958م، المفكرون وحدهم القادرين على فحص الأدوات التي تعطلت و صدئت و وجب تغييرها بأدوات جديدة تتلاءم مع المرحلة، و تستطيع انجاز المطلوب منها. هذا التغيير المطلوب؛ يحتاج إلي تغير أخر داخل المؤسسات الحزبية نفسها، فالصراع من أجل التحول الديمقراطي، يؤسس على الأفكار و ليس على الشعارات الزائفة، و التي لا يمكن إنزالها على الأرض بسبب سيطرت قيادات في الأحزاب عقولها لا يخترقها الضوء. فالثورة لكي تنجح و تعطي ثمارها، يجب أن لا تكون فقط قاصرة على إسقاط النظام، بل على إسقاط حملة التفكير التقليدي و اصحاب القدرات المتواضعة في جميع الأحزاب. و المسألة ليس الشعار الذي ترفعه، بل قدرتك في تفعيل هذا الشعار و انزاله على الأرض تبدأ من اسفل السلم إلي أعلاه. الكل الآن واقع تحت دائرة الاستقطاب الحاد و بدون أي رؤية، غير التشنج العاطفي و اللجوء للولاءات المغلقة. و يعود ذلك لغياب العناصر التي تشتغل بالفكر.
إذا بالفعل قيادات الأحزاب السياسية لديها إرادة للوصول إلي دولة ديمقراطية توفر الاستقرار السياسي و الاجتماعي و التبادل السلمي للسلطة، يجب أن يكون طريقها مفارقا للإنقاذ التي اعتمدت نظام الحزب الواحد، طريق مغاير ليس في الشعارات بل في الممارسة و الخطاب السياسي، و مواجهة التحديات بعقلانية و حكمة. و الانتقال من حالة الهياج بهدف الوصول للسلطة، و محاولة المكوث فيها فترة انتقالية طويلة دون شرعية، إلي الشرعية التي تشارك فيها كل الجماهير في اختيار القيادات التي تعتقد هي التي تحقق لها مصالحها. و نسال الله حسن البصيرة.