لا اخال نفسي في حاجة، للإشارة فقط ولو (بكلمة واحدة) عن مآلات الحزن التي ظللت سماوات الوطن الجريح، بعد إندلاع شرارة الحرب، منتصف أبريل الماضي.
حزنٌ مطبق، تطاول دخانه الكثيف، ليغطي مساحات الفرح، في وطن الشموخ، الذي تحولت أسباب الحياة فيه، الي حُطام وخراب، يرمي، ضمن أجندته الي طمس المعالم الثقافية التي عرّفت العالم بوطننا السودان، الذي امتدت حضارته الي آلاف الأعوام..
في هذا الجو الخانق، تلاحمت الصفوف، لفتح كُوة في جدار الزمن الصعب، ليطل نور الفجر من جديد، يبدد عتمة الليل الحلوك، عشماً في غدٍ زاهرٍ، ينهض فيه الوطن من كبوته، بعزم أبنائه الأبرار..
أمس جالت سهام المنايا، تبحث عن وافد، طالما آلمه حال البلاد، التي كانت عشقه، تحتل لوحدها مكامن الزهو ومواطن الإعجاب عنده، رحل الموسيقار محمد الأمين حمد النيل، بعيداَ عن وطن الجدود، كان رحيله، امتداداً لتوالي لحظات الرحيل الموجع، سبقه، عمر الشاعر والصادق الياس، وعدد من الموسيقين والإعلاميين والأدباء، كان آخرهم كمال الجزولي، هاموا بعشق التراب، ورفقة الأصحاب، وآلمهم بالقطع ما تعرّض له الوطن من خراب…
بدأ الراحل حياته في ودمدني، حيث حفلت ولاية الجزيزة، بعدد من النجوم والأعلام، منهم، محمد سليمان الشبلي، عبد الرؤوف عطيه، علي المساح، إبراهيم الكاشف، الخير عثمان، عبد المنعم حسيب، عمر الشريف، محجوب عثمان، ثنائي الجزيرة، محمد مسكين، فضل الله محمد، محمد علي جباره، كباشي حسونه، عبد الماجد خليفه، عوض الجاك، بدر التهامي، عز الدين فضل الله، عمر مشيل، محمد سيد احمد، وغيرهم من الرواد والمحدثين، مما يضيق المجال بذكرهم أجمعين..
كان (ابو اللمين) مختلفاَ في نهجه وطريقته التي بدأ بها، له مشروع كبير، تبدت معالمه في سعيه الدؤوب، للبحث عن الجديد والتجديد، في مجال الغناء، والتأليف والتوزيع، مما قاده، للتربع علي سُدة الإبداع، لينال ثقة وإعجاب كل الأجيال، بما فيهم الشباب، من جيل الحاضر، و(القونات)..
دخل (الباشكاتب) الي ردهات الإذاعة في مطلع عقد الستينات، زاحم بأدائه، مواقع الرواد، حسن عطيه، عبد الحميد يوسف، احمد المصطفي، عثمان الشفيع، إبراهيم عوض، عثمان حسين، التاج مصطفي، حسن سليمان، عبد الدافع عثمان، خضر بشير، ابوداود، الفلاتيه، فاطمه الحاج، صلاح مصطفي، محمد وردي، عبيد الطيب، الجابري، وغيرهم..
وضحت عبقرية (ابو اللمين) في صياغة الألحان، عندما قبل التحدي، لتلحين قصة ثورة (الملحمه) التي كتبها، هاشم صديق، وقام بتوزيعها، الموسيقار موسي محمد ابراهيم، عام 1967، حيث قدمها والمجموعة مكتملةً، بالمسرح القومي، بحضور الزعيم إسماعيل الأزهري، والبلاد وقتها، تعمها الاحتفالات، بذكري ثورة اكتوبر الثالثة، تميز الراحل، باغنياته الوطنيه، التي لفتت اليه الأنظار، من (اكتوبرياته) الشهيره، (شهر عشره حبابو عشره) سمعها عثمان حسين، فسعي الي شاعرها، فضل الله محمد، كان قد تخرج لتوه في جامعة الخرطوم، طلب اليه (ابوعفان) ، ان يمده بكلمات تمجد ثورة اكتوبر، مبدياً إعجابه بتعاونه مع الفنان محمد الأمين، فكانت اغنية (الوعي الجديد)، (يمين يا بلدي تنتصري.. وتبقي عزيز تذهري.. الخ) قدمها عثمان من اذاعة امدرمان، بعد اسبوع واحد، من استلامها وقام بتسجيلها في 10/ 10/ 1966م..
أعتقد جازماَ ان (الباشكوته) كما كان ينعته، راوية الفن، وذاكرته المتقدة، الراحل، ميرغني البكري، اكثر الناس التصاقاِ ومعرفةً بتاريخ ابو اللمين، الذي كان يستوحي ملامح ألحان أغنياته، من مظاهر وطنه، وحياة الناس.. قبل أعوام، وفي عهد واليها الراحل، حماد اسماعيل، حرِصّت ولاية جنوب دارفور، إقامة مهرجان التسوق السنوي، بأم المدائن، نيالا، التي تحولت الآن، الي أطلال، تفجع القلوب، كان المهرجان، تحت إشراف وزير المالية بالولايه آنذاك ، النشط، عبد الرحيم عمر حسن، تمت دعوة الموسيقار، محمد الأمين، لإحياء حفل بالاستاد، ضمن نشاطات المهرجان المصاحبة، في طريق العودة، جمعني حظي لمجاورته داخل الطائرة الي الخرطوم، فكانت الفرصة مواتيه لسبر أغواره في كثير من الأشياء، سألته عن عدد المرات التي زار فيها نيالا، وهو الذي جاب البلاد طولاَ وعرضاَ، ينثر الفرح داخل النفوس، كانت إجابته.. (تصدق دي أول مره ازور نيالا)، طفق يحدثني عن إعجابه بنيالا وكرم أهلها الفياض، حتي قلت في داخلي، (ليته لم يسكت).. جدد عزمه، بنيةٍ صادقةٍ، معاودة الكَرَه، لزيارة البحير، لا ليغني، وانما كانت أمنيته ان يأتيها وفي حوزته جملة من النصوص، وآلة العود، ليقوم بتلحينها في نيالا، بعد وصولنا جددت اتصالي بالراحل حماد اسماعيل، محيطاَ إياه برغبة (ابواللمين)، أبدى الوالي، ترحيبه، واستعداد الولاية، ليكون ضيفاً عزيزاَ عليها، واقترح ان تكون الزياره في فصل الخريف، حيث الطبيعة التي لها مع نيالا، في الخريف، وغيره، عهد لا ينفصم، وعلاقة لا تنقطع، تشاء الأقدار، ان يغادر الوالي مقعده، قبل تنفيذ رغبة ابو اللمين، ومن ثم غادر الدنيا بأكملها بعد حين، عليه الرحمة..
كان الفنان محمد الأمين، إنسانا، تدثره اثواب الوفاء، خاصة للرواد، في عام 2007م، أرادت أسرة الفنان الراحل عثمان الشفيع، ان تكمل مراسم زواج كريمته، د. ذكريات، كلفتني الأسره، بمهمة دعوة اتحاد الفنانين، لحضور المناسبه، بمنتجع ابوالطيب، بامدرمان، نقلت الدعوه لإدارة الإتحاد، وعدد من الفنانين، بوصولنا للفنان محمد الأمين (لعزومته) كان له ارتباط محدد، بمدينة ودمدني، بادر للإتصال بمدير أعماله، لتأجيل الإرتباط، لانه سيشارك في مناسبه تخص أسرة عثمان الشفيع، طلبنا اليه العزر، لارتباطه المسبق، فكانت اجابته (بت الشفيع، وما نشارك ف زواجها، الشفيع استاذنا كلنا) وبالفعل، مساء الأحد، امتلأ المنتجع برهط من الفنانين، حمد الريح، عبد القادر سالم، نجم الدين الفاضل، عازه ابوداود، مامون عوض صالح، زكي عبد الكريم، جمال فرفور، علي العمرابي وغيرهم، وكان أول الحضور الراحل ابو اللمين، أردنا ان نقدمه في بداية الحفل، لكنه أصرّ ان يكون فاصله في الختام..
الحديث عن محمد الأمين، حديث يطول، بطول قامته، وتمدد تاريخه في سوح الإبداع، عندما امتلأت الاسافير، وفاضت قبل أيام، بطلب الدعاء، له وهو يعاني من ويلات المرض، تملكني إحساس، مشوب بالخوف، علي رمزنا الكبير، كحالنا تماماَ عندما كان الكابلي يعاني، الي ان لحق بربه، نفس السيناريو، وذات التفاصيل، التي التفت بكليهما،
تواصل الدعاء، وكثر النداء، أملاً في العافية والشفاء، حتي استل الموت، سيفه، ليقطع وصل حياته، فالموت لا يستثني أحداً، مها على ذكره، وسما قدره، وارتفع بين العالمين إسمه.. عبر (الباشكاتب) علي زورق الالحان، ليرتقي سعيداً بإذن الله، الي حياته الأخرى..
اللهم ارحمه، واعفوا عنه، وقيِض لبلادنا التي أحبها، أمناً وأمانا، يسعده في قبره يا كريم،، وسلام عليك بين الخالدين.