بقلم : زين العابدين صالح عبد الرحمن
أن دعوة الدكتور طلعت الطيب بإتخاذ فلسفة كانط قاعدة معرفية من أجل البحث عن حلول للأزمة السودانية التي ظلت مستمرة سنين عددا، تعد مفترقا لطرق التفكير عند لطيب منذ بداية الأزمة صعودا للحرب، ثم إعادة النظر بالرجوع للتفكير العقلاني في البحث عن الحلول بعيدا حالة الاستقطاب التي انتظمت في المجتمع و الساحة السياسية. أن السياسة في السودان في ظل النظم الشمولية لم تجعل المعرفة و لا التفكير العقلاني محور إهتمامها، و لا كيفية توظيفهما من أجل النهضة و البناء، لآن التفكير عند القيادات السياسية في تلك النظم قد تم حصره في كيفية الحفاظ على النظام و استمراريته، هذا التفكير الضيق يجعل أهم أدواته المؤسسات القمعية، و تصبح 75% من ميزانية الدولة موجهة لتلك المؤسسات، الأمر الذي يؤثر سلبا على النهضة في البلاد، و يتراجع مستوى التعليم و بقية الخدمات الأخرى، و الاقتصاد و التنمية على المتوازنة، كل ذلك كان راجعا لآن المقدم في أجندة النظم الشمولية كان الحفاظ على النظام، و أصبحت بقية الأجندة هامشية. و عندما يتغير النظام و تتبع القوى السياسية ذات فكرة النظام السابق مع تغيير فقط في الشعارات سوف تأتي ذات النتيجة السابقة ” الفشل” لآن طريقة التفكير نفسها و أن أختلف الاعبين.
أن الدعوة إلي تغير طريقة التفكير من خلال الرجوع إلي أجتهادات الفلاسفة، و اختيار كانط باعتباره أحد الفلاسفة الذين يراهنون على العقل، يصبح المطلوب استنهاض النخب التي تعمل بالشغل الذهني، و هؤلاء فئة غير متوفرة الآن في الأحزاب السياسية، و غدت قلة حتى وسط المثقفين، و محصور وجودها في المؤسسات الأكاديمية، أو اجتهادات فردية خارج دائرة الفعل السياسي. لكن طلعت يحاول أن يقدم الفروقات عند كانط بالنسبة ” للمعرفة و التفكير” فالمعرفة عند كانط تؤسس على التجريب من خلال استدلالات العقل. و يعتقد التفكير هو الانشغال بالروحانيات و الدين و غيرها من الميتفيزيقيات. و هذا التفريق يريد منه طلعت أن تؤسس عليه الثقافة السياسية مستقبلا.
يقول طلعت الطيب في جدارية ” مركز ابحاث الديمقراطية و الدراسات الإستراتيجية” معلقا على الجزء الأول من هذا المقال الذي تم نشره ( الاهتمام بأفكار إيمانويل كانط مهمة جدا للأسباب التالية… أولا معرفة الأفكار الأساسية تساعدنا على معرفة الانحرافات التي حدثت بعدها بسبب فلاسفة الرمانسية الالمانية، و الذين كانوا قد هيأوا المانيا على تقبل الفكر النازي و الفاشية بشكل عام. رما يستنكر البعض الكتابة عن هذا الموضوع و الاهتمام بالأفكار ” الاجنبية” و شعبنا يعاني ما يعاني من تشريد و قتل. هذا الاستنكار ينطوي في حقيقته على قدر كبير من إداعاءات ” الأصالة” و لذلك واحده من الأهداف التي رمي الطيب إليها هي كشف اللثام عن تلك الأصالة الزائفة لأنه حتى أفكار الأخوان المسلمين تنتمي في لغتها و أسلوبها للرومانسية الآلمانية… ثانيا الفلسفة قبل كانط ليست كما هي بعده لأن هذا الفيلسوف كان قد وضع حدا فاصلا بين ” المعرفة” من جهة و ” التفكير” من جهة ثانية. و لذلك يكون قد سجل قطيعة كاملة مع الفلسفة الميتافيزيقية أو اليونانية القديمة مع قدرته على استيعاب و الاستفادة من أهم أفكار الثلاثة العظام ” سقراط – افلاطون و أرسطو” أن المعرفة لا تشمل الأديان و الروح و الله و العالم لأن المعرفة شيء محسوس مشروط بالتقاط حواسنا الخمسة للعالم من حولنا و طريقة عمل الذهن. أما التفكيرو التأمل فيمكن أن يشمل الإيمائيات و التفكير في الحياة الأخرى لكنه ليس معرفة) أن العودة إلي كانط هي العودة للعقل، و كيفية استخدامه في تقديم الرؤى و التصورات التي تعد طريقا للخروج من أزمة البلاد المتواصلة. و الأكثر أهمية في شغل العقل أن يؤدي إلي التحليل و النقد المنهجي الصائب الذي يبعد المتحاورين من الولاءات الضيقة إلي أفاق أرحب تكون الحقيقة هي الغاية، لكن في حالة الاستقطاب الحادة في المجتمع لا تستطيع أن تفرق بين العامة و النخب ذات العلم و الثقافة فالكل يجنح إلي لغة و شعارات ليس فيها من العلم رائحة.
لكن الآن: السودان في أزمة بدأت بعد سقوط نظام الإنقاذ في 11 إبريل 2019م و تصاعدات إلي أن وصلت للحرب التي تضرر منها أغلبية الشعب السوداني، السؤال كيف نستطيع موجهة الأزمة الآن؟ الإجابة على السؤال؛ لا تقلل من رؤية الدكتور طلعت في الرجوع لقراءة كانط حتى نضع العجلات في المسار الصحيح من خلال استخدام المعرفة. و أن كان الخلط قائم ليس عند العامة بل عند النخب المتعلمة حتى الأكاديميين في استخدام المصطلحين ” المعرفة و التفكير” المعرفة هي التحصيل العلمي أو الثقافي، أما التفكير مرتبط بالفكر، و هي الأفكار التي يصل إليها المفكر و يقدمها لحل المشكل أو الأزمة. أن أغلبية قيادات الأحزاب السياسية من المتعلمين و حاصلين على شهادات جامعية، و البعض منهم حاصل أعلى الدرجات العلمية، و لكن تجد أغلبية من هؤلاء في الممارسة السياسية لا يختلفون عن العامة، خاصة عندما يكون هناك خلاف يجر إلي الاستقطاب. و يغيب المفكرون الذين يستطيعوا أن يقدموا أفكارا بهدف التغيير، أو التصحيح في الممارسة، هذه الفئة غائبة عن الساحة السياسية، الأمر الذي عقد الأزمة و جعلها تتدهور حتى وصلت للحرب.
إذا رجعنا إلي طرح أسئلة بداهة بالقول: لماذا الشعب قاد عملية التغيير ضد نظام الإنقاذ؟ و إذا أردنا التعامل من خلال مصطلحات العامة.. و للأسف هي أفرازات أحزاب سياسية أن يكون الكل ضد الفلول و الكيزان هنا الدعوة لصراع صفري و ليس فتح منافذ حوار تقلل بروز ادوات العنف لماذا؟ الإجابة لتغيير النظام السابق سوف تتمحور في ” طلب الحرية للصحافة و الإعلام أي إلقاء القوانين المقيدة للحريات و غيرها إلي جانب العدالة التي تتمثل في حرية القضاء و إصلاح الاقتصاد و الخدمات و خاصة التعليم و التوزيع العادل للسلطة و الثروة و غيرها” و كلها أشياء تشكل عائقا لعملية التحول الديمقراطي.. إذا كانت البلاد في حاجة إلي تغيير شامل معاكس للذي كان يحدث في فترة الإنقاذ، تصبح البلاد في حاجة إلي حوارات في كل مناحي الحكم و غيرها، بهدف خلق بيئة ملاءمة لعملية التحول الديمقراطي، بيئة تقبل حوار التيارات الفكرية المختلفة، أي تحتاج إلي ثقافة مغايرة للتي كانت زمن الإنقاذ و في نفس الوقت توسع قاعدة المشاركة. السؤال هل استطاعت القوى التي حكمت بعد اغسطس 2023م أن تحدث تغييرا في الواقع الذي يعزز الحوار دون العنف؟ هل كانت النخب السياسية واعية و مدركة لعملية التحول الديمقراطي، أم كانت في حاجة للتغير الذي يطال فقط الاشخاص دون تغيير في طبيعة التفكير. للأسف أن النخب السياسية ذهبت في ذات طريق الثقافة الشمولية بذات شعارات الإقصاء و العداء، و خلقت صراعات لا تقود إلي للديمقراطية. و تعمقت الأزمة لآن النخب عجزت أن تخرج من ذلك المربع إلي مربعات جديدة. عقلية مغلقة كل مجموعة تعتقد وحدها هي التي تحقق عملية التحول الديمقراطي دون الأخريات فكان لابد للأزمة أن تتعمق و توصل للحرب، لآن الكل عينه على السلطة و غابت في زحمة التنافس على السلطة عملية التحول الديمقراطي.
أن دعوة الدكتور طلعت هي البحث عن طريقة تفكير جديدة، لكي تنقذ البلاد من أزماتها، لكن هل تجد الدعوة وسط النخب السياسية و المثقفة مثل هذه الرؤية و اعتقد جازما أن الأغلبية لا يعرف عن كانط إلا أسمه، راجع المنشور في كل الوسائط الاجتماعية و حتى عدد من الصحف لا تجد السائد غير مصطلح ” الفلول و الكيزان” حتى الإسلاميين في ميليشا الدعم يستخدمون ذات المصطلحات ضد الآخرين. و إذا سألت ما هو الحل مع هؤلاء الكل لا يجاوب لكن يشملك بنعت المصطلح..! لأنها أصبحت قاعدة الثقافة السياسية ليس عند العامة بل عند النخب…! الذين يحصرون نفسهم في دائرة استقطاب ضيقة بلغة العامة لا يستطيعون الرجوع لكانط رغم أن فلسفة كانط هي فسلفة تحليلية و كان يقول عنه المفكر المصري ذكي نجيب محفوظ ” الفيلسوف رائد الفلسفة التحليلية” و تلامذة كانط تشعبوا في فلسفته و هناك أيضا الماركسيين الذين درسوا كانت من خلال قراءتهم إلي هيجل.
أن الدكتور طلعت و تحية إليه و لمسعاه في اتخاذ الفلسفة طريقا للتغيير، هو بهذا المنهج أراد أن ينقل تفكير الناس إلي عتبات أعلى و أوسع ربما تؤهلهم على القراءة التي تجعلهم يعدلوا طريقة تفكيرهم، و لكن لا تستطيع أن تغير الناس إذا لم يطال الشخص نفسه التغيير ” لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. نسأل الله حسن البصيرة.