بقلم : زين العابدين صالح عبد الرحمن
أن الأزمة في توصيفها المعرفي عند البعض؛ هي الحالة المعقدة و المستعصية على الحل من قبل النخبة الساعية لحلها. و عندما تفشل النخب السياسية على حل الأزمة، تكون قد عترفت بطريق غير مباشر أو حتى مباشر بإنها لا تلك العقل المفكر الذي يساعدها على الحل، و أنها أيضا لا تملك الأدوات المساعدة التي يمكن توظيفها بعيدا عن عملية الاستقطاب السياسي، و بالتالي يستوجب فشلها أن تبارح مكانها، و تفتح الطريق إلي نخب جديدة تواصل عملية الحل، ربما يكون لها رؤى جديدة تساعد على الحل. و معلوم أن إدارة الأزمة يعتمد على ” العقل” و الذي يعجز عن الحل لا يملك العقل المطلوب في العملية، و لا يملك أيضا المعرفة و الثقافة السياسية و الفكرية المطلوبة. أن استمرار الفشل من قبل النخب دون أن تبارح مكانها سوف يؤدي إلي تعقيد الأزمة أكثر، و يغلق العديد من المنافذ التي يمكن أن يطل منها سودانيون ذو قدرات عقلية أرفع يساعدوا في الحل. و قد ظهر ذلك جليا في “الأزمة السياسية السودانية” حيث بدأت الأزمة بعد انتصار ثورة ديسمبر مباشرة حيث تفجر الصراع بين المكونين العسكري و المدني. فدخول العامل الخارجي كوسيط بين الجانبين يبين عمق أزمة العقل السياسي، حيث عجزت النخب السياسية السودانية طوال تاريخها المعاصر بعد الاستقلال عن حل أزمات البلاد الداخلية، و اعتمدت طوال تاريخها السياسي أن تدخل العامل الخارجي كوسيط بينها، لتؤكد أنها لا تملك العقل المطلوب إلي إدارة الأزمة بعيدا عن النفوذ الخارجي.
أن عملية التغيير في أي مجتمع لكي تنجح تحتاج لقيادات تدرك دورها المطلوب، و أيضا مستوعبة للتحديات التي سوف تواجه مسيرتها في عملية التغييرإذا كانت داخلية أو خارجية، و تعرف كيف التعاطي معها. و الغريب أن النخب السياسية رغم إنها تدين الآخرين في استخدامهم للمنهج التبريري في مواجهة الفشل و العجز، هي نفسها تعتمد على التبرير في مواجهة أخطائها، الغريب إنها ترفع شعار عملية التحول الديمقراطي الذي يتطلب التحول من المنهج التبريري إلي المنهج النقدي. أن النخب السياسية ظلت تحافظ على المنهج التبريري الذي أضحي واحدا من أعمدتها الثقافية، هذا المنهج لم يكون داخل جدران ساحة العمل السياسي بل أصبح منهجا عاما في المجتمع. أن الفشل في إدارة الأزمة من قبل النخب يجعلها لا تقدم على المنهج النقدي، فالتبرير يخلق ثقافة جانبية تساعد على التعقيد و ليس الحل، فالنخب السياسية في الأزمة لا تقبل أي نقد، بل تحاول أن تخرس الناقدين بشتى الطرق و الوسائل، باعتبار أن النقد الذي يبحث عن الأسباب الرئيس للفشل سوف يبين ضعف قدرات الذين يقعون فيه. أن تستخدم فزاعات أو إتهامات و غيرها من ثقافة الأزمة ” Cultural Symbolism ” تعني تعطيل العقل مع سبق الإصرار. فالأزمة تخلق إشاراتها و رمزيتها الثقافية و في نفس الوقت تستخدم كفزاعات بهدف وقف ممارسة أي نقد للنخبة السياسية، و تغدو الثقافة السائدة هي ثقافة الأزمة، و لا يمكن الخروج منها إلا باستخدام العقل إنتاجه الفكري.
إذا ذهب القاريء إلي أي قروب يضم عددا من النخب السياسية و المثقفين، أو الوسائط الاجتماعية، و قرأ التعليقات على المقالات المكتوبة.. يتبين له تماما عمق أزمة العقل السوداني، الذي يجنح إلي الشتم و التجريح و استخدام الفزاعات.. هذا الكم الهائل من هذه الأدوات السالبة تعكس عمق أزمة الثقافة الديمقراطية عند قطاع واسع من الذين كان يجب عليهم أن يساعدوا على تعبيد طريق الديمقراطية. أن من أهم خصائص الأزمة في المجتمع أنها تؤدي إلي تجميد و تعطيل العقل، و هو الذي يدفع الشخص أن يختصر الطريق و يستخدم رمزيات الردع في الحوار. هذه القضية ليست ممارسة مجموعة بعينها، لكنها أصبحت ثقافة سياسية أشبه بالعمومية، و هي نفسها التي تؤدي إلي حدة الاستقطاب بين المجموعات المختلفة. فالقوى السياسية التي تخرج مثل هذه الرمزية هي نفسها تطالها بخروج رمزيات و إشارات جديدة مضادة، و يصبح الصراع على هامش القضايا بسبب تعطيل العقل.
أن النخب السودانية الأكاديمية و التي تشتغل بالفكرو الثقافة، و المناط بها أن تقدم أفكارا جديدة للحوار المفتوح كخطوة أولى لتخفيف حدة الصراع، هي نفسها أعلنت أن الأزمة قد اطالتها؛ عندما ذهب البعض يتحدث عن وضع السودان تحت الوصاية الدولية عقود من الزمن، و هناك الذين يرفعون شعار التدخل الدولي، و آخرين يطالبون بالبند السابع لميثاق الأمم المتحدة. هؤلاء الذين كان ينتظرهم الشعب أن يظلوا هم الحاملين لشموع الوعي في المجتمع، و لكنهم الآن يعلنون للمجتمع أنهم عجزوا على مواصلة المشوار. لأمر الذي يؤكد أن السودان يعاني من أزمة مفكرين، قادرين على مناطحت الصخر حتى الوصول لبداية السلم، لكن قدراتهم خارت.و هناك من قدم أفكار جيدة للحوار يمكن أن تفتح أفاقا للحل، و لكن سرعان ما جعلوها وراء ظهورهم عندما لاحت لهم بعض المكاسب أو المصالح الضيقة، هكذا دائما تهزم الأفكار في مواجهة الرغبات الضيقة.
أن الحل لا يتأتى إلا إذا صممت النخب التي تشتغل بالعقل أن تعمل سويا لكي تخرج البلاد من “ثقافة الأزمة” التي كانت وراء تعطيل العقول. و يجب أن يؤسس البناء على المشتركات بين الجميع و ليس المختلف عليه الذي يعزز ” ثقافة الأزمة” و أن فكرة المقاومة الشعبية التي جعلت البعض يستيقظ من ثباته، إذا كان مؤيدا أو حتى ناقدا لها، هي فكرة خرجت من رحم الأزمة، و ستظل باقية مادامت الأزمة موجودة، و ضاربة بجذورها في عمق الأرض، و هي فكرة إذا قبلت بها النخب السياسية أو رفضتها سوف تبرز من خلالها قيادات جديدة في كل مناطق السودان المستنفرة، و هي الفكرة التي تخاف منها القيادات السياسية بسبب التنازع على القيادة الجماهيرية. و أيضا هي سوف تخلق ثقافتها الجديدة التي تتعارض مع “ثقافة الأزمة” أن تصاعد الأزمة لابد أن يسعى البعض لأختراق جدارها بشتى الطرق، و سوف تكون مضادة لمصالح النخب السابقة.
يقول برهان غليون في كتاب ” النخبة ( المطلوب هو دائما إحداث قفزة في الفكر الخامل تنقله من حالة العجز إلي حالة القوة و الحيوية و النشاط. أي المطلوب دائما هو تغيير العقل و هذا يعني تغيير مفاهيم الناس القديمة البالية و استبدالها بمفاهيم جديدة صالحة للعصر الجديد) أن الفكر في السودان هو الأداة المنسية التي لا يريد الأغلبية التطرق إليها، خاصة في حالة أزمة القيادات التي ركنت الفكر و استبدلته بشعارات سهلة الحفظ تخفي خلفها رغائب غير معلنة. نسأل الله حسن البصيرة.