رؤية الإمام إلي الوسطية “السياسية” كانت تشغل جل تفكيره
بقلم: زين العابدين صالح عبد الرحمن
يعتبر حزب الأمة من خلال نتيجة أخر انتخابات ديمقراطية أكبر الأحزاب السودانية بحصوله على “103” دائرة إنتخابية ولكن بعد 34 سنة من أخر انتخابات والتغييرات الديمغرافية التي حدثت في البلاد، وأيضا انتشار رقعة التعليم، والتطور الذي حدث في وسائل الإعلام ثم وسائط الإتصال الاجتماعية، إلي جانب التطورات العسكري والنزوعات والحروب وتكوين الكيانات المسلحة في مناطق نفوذ حزب الأمة التاريخية، سوف تحدث تغييرات جوهرية. وهي عوامل يجب مراعاتها ودراستها لمعرفة تأثيرها، وبعد الثورة كان أثر الإمام باق والكل لا يخرج عن مساحة رؤيته. لكن بعد موت الإمام فقد الحزب أهم عامل كان محركا لفاعلية الحزب ليس داخل التنظيم بل كان يرمي بظلاله على القوى السياسية الأخرى. فقد الحزب المساحات التي كان يظللها الإمام بمبادراته المتواصلة، والتي تكاد تكون أسبوعيا كان هدف الإمام من هذا الضخ الكبير للمبادرات تحقيق نقطتين.. الأولى أن يظل الحزب يحتفظ بمرتبة الشرف بأنه أكبر الأحزاب في السودان، ويجب التعامل معه من خلال هذا العامل.. الثاني مادام هو الحزب الكبير يجب على الأخرين أن يكون حوارهم محصورا بالأجندة التي يقدمها الحزب. حقيقة الذي دفعني لكتابة المقالات والتي سوف تحمل كل واحدة منها موضعا يثير التساؤلات. دفعني للكتابة ما كتب الأستاذ عبد الرحمن الغالي في نقده “إعلان تقدم” الذي وقعته مع ميليشيا الدعم في أديس أبابا.
في أول خطاب للإمام الصادق المهدي بالجمعية التأسيسية أشار فيه أن حزب الأمة أصبح يمثل تيار الوسط. هذه المقولة لم تأتي إعتباطا، بل الإمام كان يحدد وجهته الفكرية، بعد ذلك الخطاب توسعت مساحة مصطلح ” الوسطية” أن كان في العمل السياسي أو الرؤية الدينية للقضايا المطروحة. في ذلك الوقت كتبت مقالا كان قد نشر في جريدة السياسة؛ تسألت فيه ما هو المقصود عند الإمام بالوسط هل هو موقع جغرافي من خلال كسب الحزب دوائر انتخابية في المدن والحضر، أم هو فكر سياسي سوف يشكل المرجعية الفكرية لحزب الأمة، إذا كان تيارا فكريا يجب على الإمام أن لا يجعل على كتفيه إشارتين متناقضتين.. الإمامة التي تجعل الكل يتعاملون معه تعامل الحيران بالسمع والطاعة. والثانية الزعيم السياسي الذي يجب أن تتعامل معه عضوية الحزب من خلال ما تنص عليه اللوائح. أن الوسطية تيارا فكريا يؤسس الرؤية ونقدها والاختلاف معها وفق معايير المنهج النقدي.. تسألت ما هي فكرة الأمام عن النقد وخاصة من عناصر الحزب الذين يجب أن يتعاملوا معه بخاصيتين.
بعد إنقلاب الجبهة الإسلامية على النظام الديمقراطي وخروج الإمام في رحلة “تهتدون” ووصول الإمام القاهرة، اتاحت لي الجلوس فترات طويلة مع الإمام أن كانت تلك جلسات عامة أو خاصة “ندوات- سمنارات- جلسات حوارية – وجلسات ثقافية- وجلسات فنية عن الحقيبة وتطور الفن في السودان” أن اللقاءات مع زعيم سياسي ومفكر تحتاج من المرء أن يكون أكثر استماعا وطرح للأسئلة من المداخلات. وجدت الإمام رجلا متواضعا بكل ما تحمله هذه المفردة من معاني عظيمة، ومستمع جيد وصدره واسع يقبل، النقد والحوار. كما وجدت الإمام يرتاح عندما يكون الحوار فكريا أو ثقافيا بعيدا عن تشنجات السياسة. بعد ما وصل الإمام القاهرة أول ندوة عملها كانت في إحدى قاعات الجامعة الأمريكية، وأول ما لفت نظري وجعلني أنتبه بكل حواسي حديثه عن “التنوع بالفهم العام والتنوع الثقافي في السودان” وقال: الحديث عن التنوع في السودان يجعلنا كسياسيين أن نقف على منبر النقد وننقد نفسنا بإننا لم ننظر لهذا العامل بصورة جادة في قضايانا السياسية، ويجب علينا نولي القضية أهتماما، وعلى المثقفين أن يتناولوا القضايا التي يجب أن تكون معضلة للوحدة الوطنية. هذه المحاضرة ذكرتني بخطابه في الجمعية التأسيسية الذي تطرق فيه للوسطية.. قلت لنفسي أن الرجل بالفعل جاد في مشواره نحو الوسطية. وفي إحدى الفعاليات كنت جالسا بجواره وسألته لماذا مبادراتك وأرائك لا تجد الحوار الكافي من قبل النخب السياسية والمثقفين؟ قال ماذا تعتقد أنت؟ قلت له أنت زعيم حزب وإمام هل تعتقد الأخرى مؤثرة على الثانية؟ كرر نفس الإجابة ماذا تعتقد أنت؟ قلت له أن المبادرات وأرئك السياسية يجب نقدها والتعليق عليها من عضوية الحزب، هؤلاء هم المناط بهم فتح حوارات حولها ومناقشتها. مادام عضوية الحزب بعيدة عن ذلك، تكون الإمامة لها التأثير الكبير على احجام العضوية من نقد أفكارك، لأنهم لا يستطيعون الخروج من دائرة الحيران إلي دائرة السياسة المفتوحة، ولكل واحدة لها مواصفاتها.
من خلال حواراتي مع الإمام وأيضا مع الدكتور عمر نور الدائم كانت فكرة الوسطية والانفتاح على المثقفين وحتى النخب السياسية المثقفة تسيطر على جل تفكيرهم. كان الدكتور عمر نور الدائم رجل ذو ذكاء ثاقب، وحضور ذهني، ويمتاز بسرعة البديهة، ورغم الاحترام الذي يفرضه على جالسه، إلا أنه أيضا رجل ساخر ليس بالمعنى المنفر ولكن تلطيفا لجو الحوار، لذلك كانت مكانته كبيرة جدا عند كل قيادات وقاعدة حزب الأمة بمافيهم الإمام ومبارك المهدي. في مقال للإمام في مجلة “السياسية الدولية العدد141 يوليو 200 ” قال في تلك المقالة (أن أحزاب تنقصها شروط مطلوب توافرها لتقوم بدورها اللازم في إنجاح النظام الديمقراطي – أن يكون تكوينها واسعا قوميا وأن يكون عملها مؤسسيا وديمقراطيا بعض الأحزاب الكبيرة مدركة تماما لهذه النقائص عاملة بجهد للتخلص منها بقدر ما يسمح به الواقع الثقافي والاجتماعي، و بعضها يعيش واقعه لا تؤرقه هذه التحديات) كان الإمام عنده النية أن يفصل الإمامة عن زعامة الحزب، وكل واحدة عليها أن تنمو في بيئتها الصحيحة.
عندما سافرت اسمرا جلست هناك عدد من الجلسات مع شيخ العرب عمر نور الدائم، رجل كما قلت لا تمل الجلوس معه، خاصة عندما يتحدث عن الإدارة الأهلية ومناطق السودان الحضر والريف فيها، يجذبك بالفعل مثل الشريف زين العابدين الهندي لا تمل الجلسة وفجأة تجد أن الزمن تعدى ثلاث أربعة ساعات. قال لي شيخ العرب أن الصادق عازم تماما بعد سقوط هذا النظام أن يفصل الإمامة عن الزعامة، حتى يعطي عضوية الحزب مساحة واسعة من النقد كما تريدون أيها المثقفون. عرفت أن الإمام أخبره بما قلت. عرفت أن الإمام لا يدس عن شيخ العرب لاشاردة ولا واردة وكذلك شيخ العرب. رحل الإمام بعد الثورة. ودخل الحزب في دوامة الصراع الداخلي. هل غابت الفكرة أم الكل ينتظر فكرة جديدة مغايرة..!؟ نسأل الله حسن البصيرة.