بقلم: مصطفى ابوالعزائم
نهاية عقد السبعينيات ، وبداية عقد الثمانينيات ، من القرن الماضي ، كنا شبابا يتطلع نحو مستقبل أفضل لنا ولبلادنا ، وكنا مجموعة زملاء وأصدقاء في صحيفة “الأيام” الغراء إحدى صحيفتين تصدران في ذلك الوقت ، هي وصحيفة “الصحافة ” الغراء ، وكنا نعتد بأنفسنا كثيراً ونحلم مثل الشباب في كل وقت بأننا يمكن أن نغير واقعنا وواقع بلادنا إلى ما هو أفضل ؛ وكنا مجموعة تضم الأساتذة نجيب نورالدين ، والراحل هاشم كرار ، وكمال مصطفى والراحل عثمان عابدين وعدد من الزملاء ، إضافة إلى آخرين من خارج وسطنا الصحفي من بينهم دراميين وفنانين وشعراء ، إعلاميين ، وشخصيات عامة ، من بينهم الراحل عبدالعزيز العميري ، والراحل محمد طه القدال ، وآخرين ، وكنا ننتقد التوجهات العامة الرامية إلى التحرير الكلي للإقتصاد ، إذ كنا نرى إنه إنتكاسة للسياسات الإقتصادية الإشتراكية التي تساوي بين الجميع في الأمن والصحة والتعليم والنقل والخدمات ، وكان أكثرنا ينتمي إلى اليسار السياسي ، أو إلى يسار الوسط .
في جلساتنا تلك كنا نسخر من أننا سنعيش يوما نشتري فيه رغيف الخبز بمائة ألف جنيه وكيلو اللحم بملايين الجنيهات ، وعلى ذلك فقس .. إلى أن أصبحت الهواجس المخاوف واقعا تحقق مع مرور الأيام والسنوات .
الإقتصاد هو الوجه الآخر للسياسة ، وقد زادت خشية الكثيرين من إنهيار الدولة السودانية بعد هذه الحرب اللعينة التي دمرت البنيات ، وقضت على مراكز ووسائل الإنتاج ، وشردت ملايين البشر ، وجعلتهم ما بين نازح ومشرد ولاجئ ، غير أولئك الذين إفتقدناهم إلى الأبد برصاصات الغدر والخيانة .
كنا ننتقد سياسات الدولة الإقتصادية ، ونبحث عمن يكون هو المنقذ للإقتصاد ، ونحاول أن نجد أي دور لبنك السودان في تلك الفترة على إعتبار أنه من يستطيع تقدم النصح المشورة لصانعي القرار السياسي ، وذلك لأنه هو الذي يصدر العملة وينظمها ، ويصدر السياسات النقدية والتمويلية ، وإدارتها بالتشاور مع وزير المالية ، بما يحقق الأهداف القومية للإقتصاد الوطني ؛ إلى جانب تنظيم العمل المصرفي ورقابته والإشراف عليه والعمل على تطويره وتنميته ورفع كفاءته بما يحقق التنمية الإقتصادية والإجتماعية المتوازنة ، ويعمل على تحقيق الإستقرار الإقتصادي ، و إستقرار سعر العملة الوطنية على أساس أنه مصرف الحكومة الرسمي ومستشارها ، ووكيلها في كل ما له علاقة بالشؤون النقدية والمالية .
مرت السنوات وأخذت معالم التدهور والإنهيار في الظهور ، وتأثر الكل بذلك ولم ينج أحد من الضرر الكبير ، ثم جاءت الحرب اللعينة لتقضي على اي أمل في الإصلاح ، وكان أكثر الناس يتوقع إنهيارا تاما للدولة السودانية ، ولكن كان هناك حائط صد قوي ، هو بنك السودان المركزي ، وسياساته النقدية، وما كان لشخصي التعرف على تفاصيل دور بنك السودان المركزي ، إلا بالجلوس إلى محافظ البنك المركزي برعي الصديق وأركان حربه في الإدارات العليا للبنك في جلسة لم يكن مرتبا لها ، لكنها أعانتني في إستيعاب ما قام به بنك السودان المركزي في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة والإستثنائية من تاريخ بلادنا، وتعرفت على مساعي هذه الإدارة الحصيفة لتجاوز الأزمة وآثارها الناتجة عن حالة الحرب القائمة في بلادنا منذ منتصف أبريل من العام 2023 م .. وهذه وقفة مهمة نتابع تفاصيلها في مقال ننشره غدا عن سياسات بنك السودان المركزي في هذه المرحلة الحساسة ، وما قامت به الإدارة ممثلة في المحافظ ومعاونيه من عمل أسهم كثيراً في أن يبقى الإقتصاد متماسكاً قوياً ، حتى الآن رغم ظروف الحرب القاسية ومتطلباتها ، من تسليح وتشوين من خلال سياسات مالية شراكات إقتصادية داخلية وخارجية .