بقلم: زين العابدين صالح عبد الرحمن
يعد محمد بشير المعروف ب “عبد العزيز حسين الصاوي” أحد مفكري السودان الذين تكون رصيدهم الفكري والمعرفي بتيارات الفكر القومي، منذ أن كان طالبا في جامعة الخرطوم، ثم يعد أحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي.
وكان الصاوي مهتماً بالقضايا الفكرية، لذلك إرتبط بعلاقات وطيدة بالمؤسسات العربية العاملة في مجال الفكر القومي العربي والنشر، منها دار الطليعة التي كتب لها مراجعات نقدية للحركة القومية، من القومي إلي الديمقراطي: تجربة البعث، وأصدر له مركز الدرسات السودانية أزمة المصير السوداني وصدر من مركز عبد الكريم ميرغني الديمقراطية بلا استنارة ومن دار عزة للنشر الديمقراطية المستحيلة، معا نحو عصر تنوير سوداني.
جاءت معرفتي بالأستاذ الصاوي في منتصف سبعينيات القرن الماضي، ونحن طلبة جدد في جامعة بغداد كلية الإعلام والتي كانت تتقاسم المكان مع كلية الأداب، وأقام الطلبة حفل تعارف وكان يقوم بعملية التعريف الصديق محمد سيد أحمد عتيق وعندما صافحت أحدى الأخوات “عائدة” قال لي عتيق الأستاذة أخت الأستاذ عبد العزيز حسين الصاوي، انطبع الأسم في ذهني وبعد التعارف سألت عتيق من يكون الصاوي، بدأت على وجهه ملامح الاندهاش، وقال بالفعل لا تعرفه؟ قلت نعم – قال سوف أكتيك بعدد من مقالاته وحتى اليوم لم ينفذ ما وعد.
إلا أنني سألت الدكتور بكري خليل الذي كان يدرس الفلسفة في كلية الأداب إذا كان عنده مقالات للصاوي وقدمها إلي، و منذ ذلك اليوم بدأت أقرأ للصاوي ولكن لم ألتقي به حتى اوائل التسعينات، وأنا في القاهرة جاءني الأستاذ حسين حامد الذي كان عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث في الشقة التي كنت أسكن فيها بمدينة نصر ومعه شخص أقصر منه يميل للنحافة ويرتدي نظارة نظر، وفاجأني بالأسم الأستاذ عبد العزيز حسين الصاوي، أمتدت تلك الجلسة من الخامسة مساء إلي ما بعد منتصف الليل فالرجل بحر من المعرفة ولديه قدرة على ربط الأحداث مع بعضها البعض وتوطدت صلتي به.
ثم التقيت مع الصاوي والراحل محمد على جادين الذي أيضا شكل حضوراً في قاهرة المعز مع محمد سيد احمد عتيق، وكان الحوار محصورا حول قضايا أزمة الفكر القومي والديمقراطية وهي القضايا التي جعلت الصاوي وجادين وعتيق ويحي الحسين ومحمد وداعة وآخرين الخروج من حزب البعث الأصل وتكوين حزب البعث السوداني، وفي مرحلة لاحقة خرج الصاوي من السوداني وتفرغ كليا لقضية الديمقراطية والاستنارة.
في ديسمبر من كل عام كان الصاوي يهرب من صقيع لندن إلي الخرطوم، وكنت أهرب من صيف استراليا الساخن ذو الرطوبة العاليا للخرطوم، وكان يتصل بي ويحضر إلي لمنزلي في الحلفايا شارع الشهيد مطر “الإنقاذ سابقا” وأذهب إليه لمنزله المقابل لحديقة عبود من الناحية الجنوبية في بحري، فالطريق خط مستقيم بين المنزلين رغم بعد المسافة، كان شغوفا بإثارة قضايا الاستنارة، ويتحدث عن كيف تؤسس استنارة سودانية تنقل العقل السوداني من أرث السياسية للتفكر الإيجابي لخلق بيئة معرفية جديدة تنقل أهتمامات الناس لقضايا النهضة والاستنارة.
عندما يتعمق النقاش، يقول لي: نتصل بالبروف معتصم أحمد الحاج مدير مركز محمد عمر بشير في الجامعة الأهلية إذا ما عنده محاضرة نذهب إليه، وأصبح المركز ملتقى هناك يحضره الراحلين البروف محمد مهدي ومحمد علي جادين والصاوي وبروف مععتصم وشخصي، ويستمر الحوار ساعات طوال، ثم نفترق لكي نلتقي في حوارات أخرى.
كان الصاوي يفضل أن يكتب على تقديم المحاضرات، أو تقديم الندوات، وفي الحديث يفضل الحوار وطرح الأسئلة، لذلك كان دائما يعتذر عن الندوات، وحتى إذا قبل حديثه لا يتعدى نصف ساعة لكي يفتح الباب للمداخلات والحوار، وفي أحدى زياراتي للخرطوم لم أكن أعرف أن الصاوي في الخرطوم، قال الصديق عبد العزيز دفع الله أن الصاوي عنده ندوة في أحدى المراكز الثقافية بالخرطوم، وذهبنا للندوة وكانت قد بدأت قبل خمس دقائق، قلت لصديقي: أن الصاوي لن يستمر طويلاً وسوف ينقل الناس إلي المداخلات وطرح الأسئلة، وبالفعل بعد 20 دقيقة قال أكتفي بهذا القدر لكي يكون هناك وقتا للأسئلة، وأردت أن أكون أول السائلين، لكي أنقل الصاوي للموضوعات التي تشغله كثيرا “الديمقراطية والاستنارة” الموضوعان أكثر إثارة للأسئلة والحوار.
في أحدي مقالاتي النقدية لرؤية الصاوي “الديمقراطية المستحيلة والاستنارة” هي المقالة التي جعلها جزء من كتابه “الديمقراطية المستحيلة” قلت فيها “يعتبر الصاوي أحد اعمدة الفكر القومي العربي ليس على مستوى الساحة السودانية إنما على مستوى الوطن العربي فهو رجل كثير الإطلاع واسع المعرفة غزير الإنتاج مع الجودة، ورغم الأديولوجيا التي كانت تحكم ذلك الإنتاج في بداية مسيرة الرجل الفكرية إلا أن كتاباته الأخيرة تجاوزت الإطار الأيديولوجي إلي الفكر المفتوح. ويرجع ذلك لسببين، الأول أن الليبرالية أصبحت أحد المراجع الأساسية له. والسبب الثاني إعادة قراءة للفكر العربي على ضوء القضية السودانية وتطوراتها السياسية وإشكاليات التنوع الثقافي في المجتمع. هذه الإعادة لم تكتف فقط بمراجعات فكرية على الإطار النظري، أنما الرجل ذهب خطوة أبعد باتخاذ موقف في المؤسسة الحزبية التي ينتمي إليها ويميز نفسه كتيار جديد ينادي بالتحديث والاستنارة، والتحديث هي مدرسة سودانية في الفكر القومي العربي تعطي أولوياتها لمعالجة القضايا القطرية في الإطار القومي العام.
بإلحاح شديد مني شارك الصاوي معنا في خمس ندوات أقامها مركز “أبحاث الديمقراطية والدراسات الاستراتيجية” على خدمة “Zoom ” كمداخل وهي “الندوة التي قدمها البروفيسور معتصم أحمد الحاج بعنوان رؤى في الاستنارة ووعي الجماهير ومحاضرة البروف أحمد إبراهيم أبوشوك بعنوان النخب السياسية وأزمة الحكم في السودان، ومحاضرة المحبوب عبد السلام إشكالية العلمانية والإسلام في السودان والدكتور الشفيع خضر بعنوان هل الغياب الفكري والمراجعات الفكرية في الأحزاب تعد سبباً في ضعفها، ومحاضرة الدكتور مضوي إبراهيم بعنوان تحديات التحول الديمقراطي. كان الصاوي يعتبر هناك دعامتين لعملية البناء السياسي والتنموي في السودان “التعليم والاستنارة لذلك جعل من معاوية نور أيقونة لمشروع الاستنارة.
رحل عنا الصاوي دون أن يقول كلمة وداع وهو يعرف أن البلاد في أمس الحاجة لمثل هذه العقول النيرة، ولرجل كرس كل وقته وجهده لقضايا الفكر والاستنارة، والبحث لمخرجات الأزمة السودانية، كان مدرسة فكرية تتحرك بين الناس، لقد فقدت البلاد رجلاً عظيماً ظل يقدم في قضايا الفكر منذ أن كان طالبا في جامعة الخرطوم، وقبل أسبوع أرسل إلي دعوة للكتابة في قضية الاستنارة مشروع معاوية نور الذي سوف يصدره مركز الدراسات السودانية في كتاب.
لم يبقى لدينا غير أن نسأل الله له الرحمة والمغفرة والقبول الحسن ولأسرته وكل أصدقائه ومعارفة خالص العزاء.