بقلم: زين العابدين صالح عبدالرحمن
تمر الذكرى الثالثة لثورة ديسمبر المجيدة؛ والبلاد تضربها الأزمات بسبب نخبتها التي فشلت أن تجد لها حلولا، الكل نذر نفسه للتحريض، وكل يقف على رصيفه يتهم الآخرين بأنهم سببا في خلق أزمات البلاد، وتحول الجدال إلي صراع صفري بين المجموعات، كل مجموعة تريد إقصاء لآخرين من خلال شعارت ديمقراطية، وهو طرح جديد لعملية التحول الديمقراطي بثقافة شمولية كيف؟ لا أحد يعلم..! وكل مجموعة تريد أن تكون وحدها على سرج الحصان، كل مجموعة تقدم للساحة السياسية شروطها لكيف يكون المسرح السياسي، و لا تقبل الحوار حولها، وتحدد هي من الذي يجب أن يسيطر على المسرح.
الإنقاذ كل يوم تعزز موقفها من خلال ثقافتها الشمولية التي خلفتها في مسيرة حكمها ثلاث عقود، الإنقاذ انست النخبة السياسية كيف تدير معاركها السياسية بوعي وحنكة لتحقيق أهدافها، وإذا رجع هؤلاء لقراءة تاريخ تحولات الدول من الديكتاورية إلي الديمقراطية، والتي تحدوا فيها كل أدوات القمع والظلم والجبروت، لكي يصنعوا مستقبل بلادهم. يقول الله في القرأن العظيم لرسوله “نحن نقص عليك أحسن القصص” لكي يجعلها استلهاما وتبصرة.
الزعيم البولندي ليخ فاونسا عامل كهربائي في صناعة السفن في مدنية جدانسك في بولندا، التي كانت تحت وطأة الحكم الشيوعي، الذي كان يسيطر على كل شيء في الدولة، النقابات الاتحادات، الفنون، حتى انفاس الناس يعطيها بقدر، وكان مسنودا بقوة الاتحاد السوفيتي السابق وجهازه المخابراتي “KJP” الذي نشر بصاصينه في كل دول المعسكر الاشتراكي.
في عام 1970م رفعت الحكومة البولندية اسعار السلع ومنها اللحوم التي تعتبر السلعة الرئيسية التي يعتمد عليها الشعب في وجباته اليومية مثل ” الفول في السودان ومصر” وخرجت المظاهرات بصورة تلقائية، وأمر الرئيس بقمعها وقتل المئات من المتظاهرين، ثم تراجعت الحكومة عن زيادة الاسعار وتم تغيير الرئيس.
هنا فطن فاونسا أن قوة الجماهير هي القوة التي تستطيع أن تحدث تغييرا عاما في البلاد لكن كيف؟ وبدأت مرحلة التفكير الإيجابي كيف تصنع التغيير في ظل نظام يسيطر على كل شيء ولا يتردد في قمع الجماهير.
جاء الرئيس الجديد؛ وبعد فترة رفع الاسعار مثل الرئيس السابق، وخرجت الجماهير في تظاهرات كبيرة، وجاءت قيادة الحزب الشيوعي تخاطب المتظاهرين، وتشرح لهم الاسباب التي أدت لرفع الاسعار، وكادت الجماهير أن تقتنع وتذهب حال سبيلها، إلا أن فاونسا خرج من وسط الجموع، وخطب في الجماهير خطبة عصماء، وجاء بفكرة العمل المنظم ومساندة “نقابة تضامن” المستقلة الذي يعتبر هو أحد مؤسسيها ويصبح الخروج من سيطرة الحزب الشيوعي. كان الفكرة الأولي والخطوة نحو النصر أن تعترف الحكومة ب ” نقابة تضامن كممثل للعمال البولنديين” وتم اعتقال فاونسا ورفاقه وظلت الجماهير تطالب بخروجهم، حتى تفاجأت الجماهير عبر شاشة التلفزيون أن زعيمهم يوقع على صك اعتراف الحكومة بشرعية نقابة تضامن مع نائب رئيس الوزراء.
وهنا منحت السويد جائزة نوبل للسلام لليخ فاونسا عام 1983م وبدأ العالم يراقب خطواته السياسية، كانت الفكرة الثانية لابد من الاستفادة من زخم الثورة، والشعلة المتقدة وسط الجماهير، لذلك طالب الحكومة بالانتخابات، كان فاونسا مؤمن بأن الجماهير سوف لن تخزله، لم يتردد ولم يقول أن الحزب الشيوعي مسيطر على الدولة، ومسيطر على المال، وسوف يزور الانتخابات، وبالفعل كان الحزب الشيوعي مسيطر على كل أدوات الدولة ومؤسساتها، ورفضت الحكومة الفكرة تماما، واعتقلت قيادة النقابة، وجاء الصف الثاني يخوض ذات النضال، والهدف واحد دون أي تشعبات ” الانتخابات” بعد فترة أطلقت السلطة سراح فاونسا ورفاقه، ووافقت على الانتخابات، كان فاونسا متأكدا تماما أن الجماهير لن تخونه مهما كانت التحديات، كان متأكدا أن الجماهير في الشارع هي التي سوف تضع حدا للشمولية وتحدياتها، لم يتناقض في القول بأن الجماهير واعية، و يتردد بأنها سوف تكسر الوعي في الانتخابات، وجرت الانتخابات عام 1990م وفاز فاونسا وتحولت بولندا إلي دولة ديمقراطية في ظل قبضة الحزب الشيوعي البولندي والاتحاد السوفيتي وجهاز مخابراته ” KJP ” وأصبح ليخ فاونسا أبو الديمقراطية في بولندا، وكانت الشرارة التي انطلقت في بقية الدول الاشتراكية.
أن قراءة التاريخ تبين كيف تستطيع القيادة الواعية، من خلال الممارسة السياسية التي تنطلق من أجل تحقيق الأهداف الوطنية وتنتصر، لكن الخلط بين الرغبات الحزبية والشخصية يضعف الهدف، وفي نفس الوقت تضيع الفكرة لأنها تدخل في قضايا متناقضة.
الفكرة يجب أن تبرز قضية واحدة، وتتأكد إنها سوف تحقق بقية القضايا الأخرى. وهذا الذي صنعه الشارع في السودان قبل دخول الأحزب حلبة الصراع، في بداية الثورة كان الشعار واحد “تسقط بس” الهدف السقوط باعتباره العامل الذي سوف يغير مجريات الأحداث في البلاد، ويطرح أجندة جديدة مخالفة لما قبل السقوط،، ثم اردفه بشعار أخر “حرية، سلام وعدالة” هو شعار يؤكد على مدنية الدولة والتحول الديمقراطي، لكن بعد دخول الأحزاب تعددت الشعارات التي جاءت بحمولات حزبية، خلقت تناقضا بين تصور الديمقراطية والحولات الحزبية.
أن قضية الأحزاب في السودان لم تستطيع أن تتعلم من تجاربها السابقة، وتقدم أفكارا تخدم القضايا الوطنية بدلا عن الشأن الحزبي، والغريب أن أغلبية النخب حتى غير المنتمية تدخل في مصيدة الأحزاب، وتحمل حمولاتها المتناقضة. والديمقراطية لا تبنى إلا بشروطها أولها الحوار للوصول لمشتركات التعايش السلمي، والحوار المفتوح بين القوى السياسية هو الذي يقلل فرص بروز العنف. لكن للأسف أن هناك قوى سياسية لا تقبل إلا أن يقبل الجميع بشروطها، الأستاذية في العمل السياسي طريق للتمرد والعنف. وأيضا هناك أحزاب تريد إستمرار الأزمات لأن إنتهاء الأزمات سوف يتحول الصراع لداخلها هي نفسها تعاني من إشكالية الديمقراطية.
والديمقراطية تعني الحوار وقبول الرأي الأخر مهما كان مخالفا لرئيك، أتركه إذا لم يعجبك لكن عمليات التخوين والتشكيك والسبب مصدرها واحد هو التثقيف الشمولي. وهنا التناقض في الشخصية تريد أن تبني ديمقراطية بأفكار شمولية.
خرجت الجماهير منذ وقوع الانقلاب في 25 أكتوبر ترفض الانقلاب وتنادي بالدولة المدنية الديمقراطية، خرجت قيادات الأحزاب خلف الشارع الذي من المفترض تتقدمه، وتقدم تصورها لكيف الرجوع للمسار الديمقراطي، وفشلت أن تقدم أي رؤية للحل، تريد الجماهير فقط أن تخرج في مسيرات متواصلة دون أن يكون هناك برنامج.
وخرج الحزب الشيوعي معه تجمع المهنيين بشعار “لا مساومة لا تفاوض لا مشاركة” والهدف من الشعار أعلان إفلاس عن تقديم برنامج سياسي يطرح للحوار. وبالتالي تلزم الأخرين أن لا يقدموا أي رؤية للحل، هكذا تفرض حالة من العدمية، وهناك قوى تريد السلطة فقط ليس لها علاقة بقضية التحول الديمقراطي، وقوى أخرى ترفض الانتخابات لأنها تبين حجمها الطبيعي في المجتمع، في ظل هذه الرغبات المتناقض كيف يبرز الحل؟ نسأل الله للجميع ولنا حسن البصيرة.