بقلم: زين العابدين صالح عبدالرحمن
أن خروج حمدوك من الساحة السياسية بعد تقديم استقالته للشعب السوداني، قد عقد المشهد السياسي تماما، باعتبار أن حمدوك كان يمثل القوى المعادلة للعسكر في الوثيقة الدستورية، وتستطيع ممارسة الضغط من خلال استنفار الشارع لإرجاع عجلة الديمقراطية لمسارها الطبيعي، إضافة إلي أنه يجد الدعم من المجتمع الدولي باعتباره يمثل رمزا للمدنية.
والتجربة أثبتت أن حمدوك يملك القدرة على تشخيص الواقع السياسي بصورة جيدة، لكنه لا يملك رؤية واضحة لكيفية إيجاد حل للأزمة، ويرجع ذلك لقلة الخبرة السياسية، وكان يعتقد أن القوى السياسية هي المناط بها تقديم الرؤية، رغم أن التجربة السياسية منذ ديسمبر 2018م أثبتت أن القوى السياسية لا تملك أي رؤية منفردة أو متحالفة، مما يؤكد أن النخبة السياسية متواضعة في قدرتها، ويرجع ذلك أن الثلاثة عقود للإنقاذ قد أثرت سلبا على الأحزاب السياسية، حيث غادرتها القيادات التي تشتغل بالفكر، وصعدت لقمة الأحزاب خاصة التقليدية ” الأمة، الآتحادي، الشيوعي” العناصر التنفيذية ذات القدرات المحدودة. وأيضا سيطرت على القوى الجديدة مجموعة من الشباب “ناشطين سياسيين” الذين ما استطاعوا أن يخرجوا من تأثيرات أركان النقاش في الجامعات. هذا التواضع في القدرات جعلها تفشل في إدارة الإزمة منذ إعلان إقالة البشير، لذلك راهنت على السلطة وليس على الديمقراطية.
أن المشهد السياسي تسيطر عليه ثلاثة قوى سياسية، وهي التي تستطيع أن تجعل البلاد في حالة استقرار، أو حالة من السيولة السياسية، وهي التي سوف يقع عليه تشكيل ملامح سودان المستقبل، لتأثيرها القوي في الشارع ونشر شعاراته من خلاله، أن القوى التقليدية قد تراجعت خطواتها كثيرا، خاصة وجودها وسط الأجيال الجديدة، وعجزت أن تقدم أجيال جديدة في القيادة لكي يكونوا أداة للاستقطاب. والقيادات التاريخية مستوعبة أن دورها أصبح محدودا لكنها متمسكه بالثقافة الأبوية “البطريكية” بأنها تعد نفسها مرجعية الخطأ والصواب للفعل السياسي وهي نرجسية تصيب أغلبية النخب السياسية.
والأحزاب الحديثة التي انتعش دورها مع الثورة قيدت حركتها مع المحاصصة “السلطة” وضيقت على نفسها عدسة الشوف، لذلك فشلت أن تقدم أي رؤية لحل الأزمة، وأصبحت تربط كل تطلعاتها بالسلطة وكيفية الرجوع إليها رغم أنها تعرف أن ذلك لن يتم مرة أخرى إلا من خلال صناديق الاقتراع، وكانت قد جاءتها الفرصة، عند تشكيل حكومة المحاصصات الحزبية، ولم تستثمرها في تكوين المؤسسات التي تسهم في تجيير الديمقراطية في المجتمع. وذهبت مع السلطة ونسيت أن السلطة طريق الصراع المستمر الذي لا تخفت جذوته، كل ذلك لأنها بنت قناعتها أن السلطة سوف تجعلها تستفيد من مؤسسات الدولة لخلق دعاية انتخابية لها بعد فترة انتقالية يمكن أن تتمدد لربع قرن.
1 – القوى الأولى التي تتحكم في العملية السياسية هي الشارع، الذي تتحكم فيه فئة الشباب من الجنسين، وهي مرحلة متقدمة جدا في الوعي السياسي، أن يتوحد الشارع حول شعاراته التي تتمركز في شعارين “الدولة المدنية الديمقراطية – وحرية سلام وعدالة” وهما شعارأن يحددان مسار القوى السياسية، لكن مشكلة الشارع، أنه متمحور في لجان المقاومة بصورة أفقية، ليس له قيادة موحدة تتحدث بأسمه، ويرجع ذلك لقلة الخبرة السياسية، وأيضا للاختراقات التي تحاول القوى السياسية أن تحدثها في جدار الشارع لكي تحمله شعاراتها، وتلونه بلونها الباهت. ولكن الشارع يملك موقف سلبي من الأحزاب السياسية، الموقف يجعله يرفض أي تصور منها، الأمر الذي يفقد فرص الحوار بينهما.
وإذا استطاع الشارع أن يختار قيادة بعيدا عن التأثيرات الحزبية سوف يغير الواقع السياسي، ويرسم ملامح سودان المستقبل، ويكون ذلك دافعا قويا للأحزاب، أن تجري تحديثأ داخل بناءاتها التنظيمية وفكرية تحدث تغيرات جوهرية تتماشى مع الشعارين، وسوف تغيب عن الساحة القيادات التاريخية ذات الحمولات للموروث السياسي الذي لم يقدم للبلاد سوى الفشل، ولجان المقاومة في الأحياء تحاول أن تقدم رؤية للحل تطرح في طاولة الحوار الوطني، لكن إدخال أرنبة أنف الأحزاب يؤثر سلبا عليها. ولكن المحاولات نفسها هي تدل على استخدام العقل بصورة إيجابية. وقوة الشارع أن يحافظ على استقلاليته، حتى يستطيع أن يفكر بحرية وليس بحرية منقوصة تفرضها تصورات لأحزاب تتمرق في الفشل، هذا هو التحدي المفروض على الشارع.
2- أن الحزب الشيوعي أحد الاعبين الأساسيين في الشارع السياسي، رغم أنه لا يملك رؤية واضحة يقدمها للحوار الوطني، والحزب الشيوعي خوفه من التصنيفات السياسية التي رمتها به القوى الأخرى منذ تكوينه في وسط الاربعينيات من القرن الماضي حتى اليوم، ويعتقد أنها تصنيفات غير موضوعية تحد من دوره في المجتمع خاصة خارج المدن، وتجعله دائما يتعامل من خلال واجهات يحملها رؤيته السياسية، وألآن يعمل بطاقة تتجاوز كل طاقات القوى السياسية الأخرى، التي كانت متحالفة معه في فترة سابقة، حتى أنه يريدها أن تخرج من المسرح السياسي، أو تأتمر بقيادته، وقالت قيادات الزملاء أنها بصدد تحالف جديد يقوم على أسس جديدة تؤمن بالثورة الدائمة الرجوع غير المفهوم “للتروتسكية”.
أن الحزب الشيوعي يحاول أن يشكل تنظيمات جديدة تعتمد على “تجمع المهنيين الذي يسيطر عليه الزملاء” وبعض لجان المقاومة وتنظيمات أخرى شبابية ونسوية، وهي التي تفرض نفسها على المسرح السياسي، وبالتالي تفرض شروط المساومة السياسية الجديدة وتقديم وثيقة فيها رؤية الحل كما يريدها الزملاء. وهذا ما جاء في ميثاق “تجمع المهنيين” أن السلطة يجب أن تسلم إلي “القوى الثورية” ولكنه لم يعرف القوى الثورية، ولم يحدد من منٌ تتكون، لكن كمال كرار القيادي في الشيوعي حددها في حديثه “للجزيرة نت” قال تتكون من “تجمع المهنيين والحزب الشيوعي وبعض لجان المقاومة” والحزب الشيوعي رغم محاولات أختراق لجان المقاومة المستمرة ونشر شعاراته، لكنه لم يستطيع السيطرة على الشارع، لذلك لن يراهن على الانتخابات باعتبارها الطريق الذي سوف يبعد العسكر تماما عن المسرح السياسي.
والزملاء يعلمون أن الانتخابات يؤثر فيها المجتمع التقليدي الذي تسيطر علي 70% فيه الأحزاب التقليدية. ولذلك لم يستطيع الزملاء مغادرة منصة التحريض للنقل لمربع جديد يقدمون فيه رؤية سياسية للحل تخلق حوارا شاملا تشارك فيها كل القوى السياسية يصل لتوافق وطني، لأنهم يتطلعون أن الثورية تقدم لهم السلطة في طبق من ذهب يسيطرون فيها على الفترة الانتقالية ويفرضون شروط بناء سودان المستقبل، وتستمر الفترة الانتقالية حتى يقتنعون أن الانتخابات سوف تعيدهم للسلطة. وهي الشمولية المغلفة بورق سلفان.
3 – الإسلاميون بتكويناتهم المختلفة، يعتبرون من المؤثرين بقوة أيضا في المشهد السياسي، وأن عدم إيجاد حوار صريح معهم حول عملية التحول للديمقراطية يجعل التفكير بعيدا عن النظرة الموضوعية.والإسلاميون ينقسمون لثلاثة تيارات، التيار الأول المؤتمر الشعبي الذي يمثل القاعدة السياسية التقليدية للحركة الإسلامية، وهؤلاء رهانهم الوصول إلي الانتخابات التي تزيل عنهم حالة الإقصاء المفروضة عليهم.
التيار الثاني يمثله المؤتمر الوطني الذين يراهنون على فشل الأحزاب في إدارة الصراع في الفترة الانتقالية، وهذا الفشل سوف يغير مجرى العمل السياسي لصالحهم، وهؤلاء لهم وجود في الساحة حتى إذا لم يكن الوجود بشكل ظاهر لكنه فاعل، وهم الذين استطاعوا أن يحاصروا “قوى الحرية والتغيير خاصة المجلس المركزي” وكما قال أمين حسن عمر سوف ننتظر الانتخابات حتى نعرف من الذي يملك جماهير في المجتمع.
التيار الثالث يضم الإسلاميين الذين خرجوا من المؤتمر الوطني قبل الثورة مجموعة “غازي صلاح الدين – الأخوان المسلمين – مجموعات انصار السنة – حزب التحرير الإسلامي – تيارات الشباب الإسلامي الجديدة والمجموعات الصوفية” كل هؤلاء لهم حركة في الشارع السياسي، ويشكلون كتلة انتخابية قوية، ولكن دورهم الآن ينحصر بين المراقبة للواقع، وتحضير انفسهم لمعارك المستقبل، باعتبار أن تدخلهم بالصورة المباشرة سوف يكون في مصلحة القوى الأخرى، تكون دافعا لهم لتوحيد صفوفهم، لذلك يفضلون العمل التكتيكي على الدخول في إجراءات رؤيتهم الإستراتيجية، وفاعليتهم القوية سوف تظهر عندما يحين موعد الانتخابات، كما يطالبون المشاركة في المؤتمر الدستوري الذي يضع التصور العام لدولة المستقبل.
هذه القوى الرئيس الفاعلة في المشهد السياسي والتي ترسم مستقبلها بصورة فاعلة ولها تأثير في الشارع ووسط المجتمع. هناك قوى أخرى؛ لها حظوتها القوية في الانتخابات، باعتبار أن وجودها في الريف يشكل قاعدة أساسية، كما لها وجود في المدن يتمدد ويتقلص حسب حركة قاعدتها الجديدة في المجتمع.
وهذه القوى “حزب الأمة القومي بكل تفرعاته وأيضا الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل وبكل مجموعات الاتحاديين والتي سوف تندمج معه عندما يحين موعد الانتخابات. ولها تأثير أيضا لكن ليس في المرحلة الحالية، لأنها لم يكن لها استعداد كامل لإحداث أختراق وسط الأجيال الجديدة.
كان أمام حزب الأمة دورا كبيرا في الفترة الانتقالية، ورسم ملامح مستقبلها إذا استطاع أن يتجاوز الخلافات داخله، وينطلق من منصة حزب الأمة، ويقدم أطروحته “خارطة الطريق” من تلك المنصة ذات الإرث التاريخي، لكنه حاول أن يشعب المسألة نتيجة للترضيات على حساب الهدف الإستراتيجي، أراد أن يكون حزب الأمة وفي نفس الوقت حزب عضو في منصة تحالف “المجلس المركزي” وأيضا دعاة تفاهم مع العسكر، ومد خيوط التواصل مع الشارع، هذا التشعب أضعف “خارطة الطريق” وجعلها تحاول أن ترضي الجميع دون التركيز على قضية التحول الديمقراطي بالصورة التي تفرض شروطها بعيدا عن المجاملات السياسية. لذلك أصبح تأثير الحزب في الشارع ضعيفا لا تمكنه من تمرير رؤيته كما كان في السابق.
وهناك قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي؛ هذه القوى مشاركتها في السلطة أضعفتها تماما، وهي تحاول أن تجد لها قبول الآن في الشارع، من خلال تبنيها لشعارات الشارع، وفي نفس الوقت تصدر بيانات وتصريحات باعتبار إنها توجه الشارع، وتستخدم مناورة مكشوفة لأن الشارع لا يريد التعامل معها، ويفرض عليها قيود جعلها تستجدي بدلا أن تطرح رؤية سياسية للحل، تخلق حوارا في الساحة السياسية. وتحاول أن ترجع حالة القصور التي وقعت فيها من خلال نقد موضوعي للسلطة التي لم تديرها بالشكل المطلوب، وهي تحصر خطابها في الانقلاب، لأنها ما تزال تحصر رؤيتها العودة للسلطة مرة أخرى، بدعوتها الرجوع إلي ما قبل انقلاب 25 أكتوبر. لذلك هي أصبحت غير مؤثرة في المسرح السياسي، وضعف أدائها جعل حركتها في المسرح محدود وتربطها بأنها تأتمر بأمر الشارع بدلا أن تقود الشارع. وهي تعلم أن الرجوع للفترة قبل الانقلاب إحياء للوثيقة الدستورية لن ترجع مجموعة المجلس المركزي بل كل الذين وقعوا في اعلان الحرية والتغيير. فغياب السلطة عنها سوف يخلق لها تحدياً كبيرا.
هناك قوى أخرى هي مجموعة الميثاق والحركات المسلحة وهؤلاء لا يستطيعون التفكير خارج الآطار الذي تتحكم فيه المجموعية العسكرية. وأصبحوا يمثلون الجوقة التي يتحكم فيها العسكر ويوظفونها التوظيف الذي يخدم رؤيتهم.
ويصبح الصراع مع العسكر ونجاح عملية التحول الديمقراطي وعملية الاستقرار السياسي في البلاد محكومة بالتوافق السياسي بين القوى الرئيس الثلاث “الشارع بكل لجان مقاومته – الشيوعيون بكل واجهاتهم المدنية والسياسية – والإسلاميون بكل تياراتهم” هؤلاء الذي يتصارعون الآن أيديولوجيا على الساحة، وإذا كان هناك اتفاق بين أثنين دون الثالث لن يؤدي الاتفاق إلي حل جذري للمشكلة يفضي إلي الاستقرار السياسي والمجتمعي، أما العسكر يريدون فقط ضمانات لهم تجنبهم من أي مسألة قانونية في المستقبل، والشارع أكثر المؤهلين أن يقدم رؤية تنطلق من مباديء ديمقراطية.
أن النظرة الموضوعية للمسرح السياسي، وقراءة الواقع قراءة تنطلق من معطياته بعيدا عن تدخل العاطفة والرغائبية، سوف يكون المدخل الصحيح للحل الذي يفضي للدولة المدنية الديمقراطية. ونسأل الله حسن البصيرة.