بقلم: الدكتور الدرديري محمد أحمد*
حملت اخبار الأمس تصريحا للسيد فولكر بيرتس، الذي نرجو له عاجل الشفاء، جاء فيه انه لن يتعامل مع المؤتمر الوطني “المحلول” – هكذا – احتراما للقانون السوداني. وحيث انه سبق ان افردنا مقالا وضحنا فيه كيف ان الحل المزعوم للمؤتمر الوطني يخالف المواثيق الدولية لحقوق الانسان، فاننا نتناول هنا امرا آخر اثاره هذا التصريح الغريب.
فحين يصدر مثل هذا التصريح ممن يمثل الأمين العام للأمم المتحدة فانه يطرح العديد من الأسئلة؛ وهي: هل يجوز للأمم المتحدة ومبعوثيها انتهاك القانون الدولي لحقوق الانسان؟ وهل يجوز لهؤلاء المبعوثين التذرع في ذلك باحترام قوانين البلد المضيف، سواء في ذلك القوانين التي تحترم المواثيق الدولية والتي تخترمها؟ وان هم فعلوا ذلك فاحترموا من هذه القوانين ما ينتهك هذه المواثيق فهل هم بمنجاة من العقاب؟ ذلك هو ما نسطر له هذا المقال.
لا شك في انه يتعين على المنظمات الدولية، مثلها مثل الدول، الالتزام بما تمليه عليها المعاهدات التي تَدخل طرفا فيها. غير ان الامم المتحدة والعديد من المنظمات الدولية الكبرى ليست طرفا في اي معاهدة لحقوق الانسان، بل ليست طرفا حتى في المواثيق التي أنشأتها. فهل يجعلها ذلك فوق الالتزام بالقانون الدولي لحقوق الانسان، فتكون “في حِل من القانون”؛ على رأي المصطلح اللاتيني legibus solutu ؟.
قاد هذا السؤال لجدل شائك في القانون الدولي حسمته محكمة العدل الدولية في آراء استشارية عدة قدمتها للجمعية العامة للأمم المتحدة كان اشهرها الرأي المقدم في المسألة المعروفة بمسألة التعويضات. غير اننا نكتفي هنا بايراد ما ذكرته المحكمة في رأيها الاستشاري حول طلب الجمعية العامة تفسير اتفاقية 25 مارس 1951 المبرمة بين منظمة الصحة العالمية ومصر. اذ خلصت المحكمة الى ان “المنظمات الدولية خاضعة للقانون الدولي، ومن ثم ملزمة بأي واجبات تلقيها عليها المبادئ العامة للقانون الدولي ومواثيقها المؤسسة”.
وهكذا صارت الأمم المتحدة ملزمة بموجب هذا الرأي الاستشاري بمبادئ القانون الدولي لحقوق الانسان كونها من المبادئ العامة للقانون الدولي. كما صارت الامم المتحدة ملزمة بميثاقها كاملا، مثلها في ذلك مثل الدول اعضاء ذلك الميثاق. فصارت ملزمة بالمادة الأولى (3) من الميثاق، التي تحض الامم المتحدة بأن تعمل على “تعزيز احترام حقوق الانسان والحريات الاساسية للناس جميعا”.
وكذلك المادة 55 (3) التي تلزم الامم المتحدة بأن تعمل على “أن يشيع في العالم احترام حقوق الانسان والحريات الاساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس او اللغة او الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء، ومراعاة تلك الحقوق والحريات فعلاً”. ويلاحظ انه اذا منع الميثاق التمييز على الأسس المذكورة اعلاه، فقد جاء لاحقا الاعلان العالمي لحقوق الانسان وتوسع في أسس التمييز المُنكر، فمنع التمييز على اساس “الرأي سياسيا وغير سياسي”. ثم جاء بعده العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية ليمنع التمييز ل “غير ذلك من الأسباب”.
يتضح من هذا الاستعراض الموجز لالتزامات الامم المتحدة انها تلتزم تعزيز “احترام حقوق الانسان والحريات الاساسية للناس جميعا” بمن فيهم أعضاء المؤتمر الوطني! ويتضح ايضا انه يمتنع عليها ان تميز بين الناس على أساسٍ من كونهم “فلول أو ثوار” ؛ اذ يدخل ذلك في اطار التمييز القائم على “الرأي السياسي”، او على “الرأي غير السياسي”، او على “غير ذلك من الأسباب”! بل يتضح انه على الأمم المتحدة ان تراعى حقوق “الفلول” وحرياتهم “فعلا” لا قولا … “فعلا” لا تجملا او مراءاةً.
كذلك فان الامم المتحدة ملزمة بقراراتها تحت الفصلين السادس والسابع. فبالرغم من عدم نص الميثاق على ذلك صراحة فقد أكدت الآراء الاستشارية لمحكمة العدل الدولية ان هذا الالتزام يستمد بالضرورة من المادتين الاولى والثانية من الميثاق مقروءتين مع الفصلين المذكورين. وهكذا تجوز مساءلة الامم المتحدة تحت كل قراراتها الصادرة بشأن السودان تماما كما يُساءل “النظام البائد” تحت تلك القرارات! بل يُساءل مبعوثو الامم المتحدة عنها مثلما يُساءل غيرهم، بل أشد. فمبعوثو الامم المتحدة مساءلون، فوق ما تقدم، بموجب تعليمات الامين العام للأمم المتحدة التي تصدر لتوجيه اعمال بعثات الامم المتحدة وقواتها حول العالم والتي تنص على معايير صارمة تنطبق على مبعوثي المنظمة الأممية وموظفيها وجنودها دون غيرهم.
لكن ألا تلزم اتفاقية مركز البعثة Status of Mission Agreement (SOMA) المبعوث الأممي بالالتزام بقانون البلد المضيف؟ هذه هي المسألة التي اختلطت فيما يبدو على السيد فولكر بيرتس فأوردته هذه المهالك وجرته الى هذه المزالق. وحيث اننا نفترض ان اختلاط الامر عليه كان بحسن نية فاننا نورد هنا حجتنا تخطئةً لموقفه. ان الأمم المتحدة ومبعوثيها ملزمون بمراعاة الميثاق ومبادئ القانون الدولي وان يلقوا جانبا بالتزاماتهم تحت اتفاقية مركز البعثة SOMA اذا تعارضت تلك الالتزامات مع الميثاق. ذلك انه وبحسب المادة 103 من ميثاق الامم المتحدة “اذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها اعضاء الامم المتحدة (وكذلك الامم المتحدة) وفقا لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي آخر يرتبطون به فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق”. ومن ثم فالتزامات الامم المتحدة الناشئة عن اتفاقات مركز البعثة لا تعلو على التزاماتها بموجب الميثاق. بل ان التزامات الامم المتحدة وبعثاتها بالقانون الدولي لحقوق الانسان تسود على التزاماتها بموجب اتفاقات مركز البعثة.
ونتحدث هنا بشكل خاص عن التزام الامم المتحدة تحت المادة 22 من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية. فانه يفهم من تلك المادة مقروءة مع المادة 4 من العهد الدولي المذكور انه لا يجوز للدول الاطراف أن تحل الاحزاب السياسية بشكل انتقائي او بقرار اداري وبشكل ينطوي على تمييز. فاذا اضطرت الدولة لتعليق حرية التنظيم في حالات الطوارئ فانه يتوجب عليها ان تفعل ذلك دون تمييز وان تُعلم الامين العام للامم المتحدة بقرار التعليق وبالاسباب التي دفعتها اليه وبالتاريخ الذي ينتهي فيه هذا الاجراء.
في الحالة التي بين ايدينا لم يتم تعليق حرية التنظيم على نحو يتفق مع هذه المبادئ. ولم تأخذ الامم المتحدة علما بما تم. عليه فان الواجب على المبعوث ان يلتزم ميثاق الامم المتحدة وقواعد القانون الدولي لحقوق الانسان، بدلا من ان يطرحها جانبا ليعلن ان حزبا معينا هو حزب “محلول” بسبب أن القانون الداخلي لتلك الدولة قد حله! اذ لا ينبغي للامم المتحدة ان تطبق القانون الداخلي للدولة التي تتجاهل القانون الدولي لحقوق الانسان! وفي سابقة مشهورة فعلت الامم المتحدة ذلك مرةً، غير ان القانون الدولي قد ردعها أيما ردع.
ففي معمعان الحرب الباردة اصدر الرئيس الامريكي ايزنهاور عام 1953 القرار التنفيذي رقم 1042 الذي شكل بموجبه لجنة لفحص الامريكيين المتقدمين للعمل في المنظمات الدولية للتأكد من ولائهم واتفاق ارائهم السياسية والمصلحة العليا لأمريكا. سميت تلك اللجنة صراحة International Organizations Employee Loyalty Board. التزمت منظمة اليونيسكو بالقرار التنفيذي المذكور وقبلت بألا تعين من الامريكيين الا اللذين تجيزهم هذه اللجنة. وهكذا نَحّت منظمة اليونسكو جانبا مبادئها المتعلقة بحرية الرأي، بل نحت كل مبادئ القانون الدولي لحقوق الانسان.
لجأ المواطنون الامريكيون اللذين تضرروا من التزام اليونسكو بالقرار التنفيذي للجنة الادارية لمنظمة العمل الدولية. وقد اتخذت لجنة منظمة العمل قرارا عام 1956 قضى ان الامين العام للامم المتحدة ومدير عام اليونيسكو قد أخطأءا خطأ كبيرا بالتزام القرار الامريكي المذكور الذي ينتهك حرية الرأي. جراء ذلك تولى الامين العام للامم المتحدة تسوية الامر مع هؤلاء المتضررين. وحيث انه لم يعد ممكنا تعيين المتضررين في اليونيسكو بعد ان شُغلت المواقع التي تقدموا لها فقد دفعت لهم المنظمة الاممية تعويضات كبيرة.
حتى ذلك الحين الذي تم فيه تعويض المواطنين الامريكيين كان القرار التنفيذي رقم 1042 ساريا. فالامم المتحدة لا تنتظر حتى تتكشف عدم دستورية القانون الداخلي للدولة المضيفة لتعلن انها لا تلتزمه. فمرجعيتها هي القانون الدولي لحقوق الانسان وليس القانون الدستوري للدولة المعنية. ويتوجب عليها الالتزام بمرجعيتها رغم سريان القانون الداخلي المخالف. وقد ظل القرار رقم 1042 ساريا في امريكا لمدة طويلة بعد ذلك حتى ابطلته المحاكم الامريكية عام 1986 لمخالفته التعديل الاول للدستور الامريكي.
وهكذا يتضح ان الامم المتحدة تتحمل المسئولية كمنظمة عن انتهاكات حقوق الانسان التي ترتكبها. فهل يتحمل ايضا مبعوثوها وموظفوها اللذين ترتكب تلك الانتهاكات من خلال افعالهم واقوالهم أي مسئولية فردية؟ الاجابة هي نعم. فاذا كان الموظف الاممي يتمتع بحصانة كاملة بموجب اتفاقية مركز البعثة التي تحميه من المساءلة امام محاكم الدولة المضيفة عن اي عمل يؤديه بصفته الرسمية، فإن ذلك ليس هو حاله امام محاكم بلده والتي تجوز مقاضاته لديها حتى اثناء توليه مهامه. كما انه تجوز مقاضاته امام محاكم ومفوضيات حقوق الانسان التي يمكن للمتضررين اللجوء اليه فور زوال الحصانة عنه، واحيانا قبل ذلك.
صفوة القول، اذا كان من فساد الرأي قول بعض الساسة السودانيين عن حزب المؤتمر الوطني انه “محلول”، فانه من الخطل ان يتفوه بذلك مبعوث أممي. فاذا استسهل الساسة الوطنيون ان يضربوا بحقوق الانسان عرض الحائط، من اجل دنيا يصيبونها، فماذا يحمل المبعوث الأممي لذلك؟ واذا كان من قلة الحيلة لدى الساسة الوطنيين استسهال الحديث عن استثناء المؤتمر الوطني لأي سبب كان، فانه من سوء التقدير ان يسير المبعوث الخاص سيرتهم. اذ تحكمه مواثيق غليظة ينبغي ان تعصمه عن ذلك. واذا ما انقسمت الساحة السياسية السودانية لفسطاطين على اساس الموقف السياسي من التغيير الذي تم في ابريل 2019؛ فانه ليس لممثل الامين العام للامم المتحدة ان يعامل الناس بناء على ذلك الانقسام. فهذا تمييز قائم على الرأي السياسي ما قامت الامم المتحدة الا لمنعه.
وهكذا لا ينبغي للمبعوث الأممي ان يدنى الى مجلسه من يسمون نفسهم “الثوار” و يقصي عنه من يُدمغون جزافا بلفظ “الفلول”. واذا كان رئيس البعثة الاممية يدعو من يسميهم لجان المقاومة وبعض التجمعات النسائية للمشاركة في منتداه، وما هي بكيانات مسجلة اصلا، فليس له ان يعلن انه لن يدعو المؤتمر الوطني لأنه “محلول”. فمن لا يبالي بالتعامل مع الكيانات “غير المسجلة” لا ينبغي ان يبالي بالتعامل مع الكيانات “المحلولة”. فهو في كلتا الحالتين يخالف قانون تسجيل الاحزاب السوداني الذي لا يزال ساريا!.
واخيرا هل طلب المؤتمر الوطني اصلا من فولكر بيرتس ان يدعوه! اذاً ما كان أغنى السيد بيرتس وأغنانا عن الخوض في كل هذا!
الخرطوم 17 يناير 2022
*وزير خارجية سابق