بقلم: زين العابدين صالح عبدالرحمن
أن المقابلات السياسية التي أجرتها الإعلامية عفراء فتح الرحمن في “قناة سودانية 24” في برنامج “الميزان السياسي” كانت طفرة إعلامية متميزة في محاولة لإحداث أختراق حقيقي لعقل الأزمة السياسي في السودان ويؤكد أن جراءة الفكرة تبين اتساع الرؤية الإعلامية والقدرة الإبداعية عند صاحبة البرنامج. وفي ذات الوقت يؤكد إن إدارة قناة “سودانية 24” تتمتع بصفتين أساسيتين: الأولى أنها إدارة لا تتردد في السماح بمناصرة الأفكار الجيدة الباحثة عن فتح طرق للحل والتي تفكر خارج الصندق المحكومة بالثقافة الشمولية التي خلفته الإنقاذ في الثلاث عقود الماضية، وأيضا مخلفات النظم الشمولية الأخرى التي وضعت الإعلام في (Infinite track) لا يستطيع المرء أن يخرج منه إلا من خلال تقديم رؤية جديدة تتجاوز مخلفات الثقافة الشمولية. الثاني أن الإدارة تؤكد بذلك أنها سوف تتحمل كل ردات الفعل الإيجابية والسالبة التي تنتج من خلال تقيمها للفكرة. هذه الإرادة هي التي تعبد طريق الحرية والديمقراطية، لأنها ممارسة لها أنعكاساتها وسوف تخلق حوارا يتسع لكي يخلق وعيا جديدا. ولا أقول هذه كانت بداية في مسار القناة بل هي كانت أيضا جريئة في برامج أخرى منها (دائرة الحدث).
أن البرنامج رغم أنه كان معايدة سياسية، لكن الحالة التي يعيشها السودان تجعل استمراره ضرورة بهدف أحداث أختراق في الأزمة السياسية. والحديث عن البرنامج ينقلنا مباشرة لدور الإعلام في مثل هذه الأزمة المستمرة، والتي تحاول كل قوى سياسية أن توظفها لمشروعها السياسي. الأمر الذي يجعل قضية التحول الديمقراطي في أدني سلم أولويات الجميع رغم أن التاريخ وتجارب الشعوب التي انتقلت من النظم الشمولية إلي النظام الديمقراطي وجعلتها تستوطن فيها، كانت من خلال الممارسة اليومية التي تنتج ثقافة ديمقراطية جديدة بديلة للموروث الشمولي الهدف منها جعل العقل السياسي يتحرك باستمرار. وتبعده عن حالة الجمود التي عاش فيها في ظل النظام الشمولي، وتهيئه لحراك مستمر يتقبل فيه العديد من الأفكار ويفكر كيف يختار أفضلها. أي أن تخلق وعيا سياسيا جديدا.
كنت قد تابعت الإعلامية عفراء في نشاطها الإعلامي منذ أن كانت تقدم برامج في قناة “الشروق” وكانت أفكارها فريدة ومتميزة. وهذه التجربة جعلت الأفكار عندها تتولد بصورة تتماشى مع اجتهادها في الاطلاع والسعي في اتسلع المعرفة، وهي الأدوات الضرورية للإبداع. الأمر الذي جعلها تقدم أشياء مميزة. وفي نفس الوقت كسرت تابوهات كانت قد صنعتها الثقافة الشمولية المختزنة حتى الآن في عقول العديد من السياسيين، وحتى عند الآجيال التي تتراوح أعمارهم ما بين 45 – 20 عاما. ومن خلال هذا البرنامج يتبين أن الفكرة واضحة في مخيلة عفراء، أن الأزمة في السودان نتاج خلاف عميق بين تيارات سياسية ليس لديها الاستعداد لقبول بعضها البعض، وفي ذات الوقت تخاف جميعا من الحوارات المباشرة للبحث عن طريق للوصول لنظام ديمقراطي مستقر. ويخلق المواعين الديمقراطية التي تستطيع هذه التيارات أن تدير حواراتها الفكرية داخلها، وبشكل مؤسس ديمقراطيا يفضي في النهاية لتوافق وطني. ويظهر ذلك من خلال أختيارها للشخصيات المتنوعة والمختلفة سياسيا في الساحة، وحاورتهم بكل صراحة، والحوار يكشف كيف تفكر هذه الشخصيات، وقبول الشخصيات للحوار مع عفراء يعني هناك استعدادا عند الجميع للحوار. والسؤال هل هناك إعلاميين وصحافيين قادرين أن يخرجوا من دائرة الاستقطاب السياسي الحاد الدائر الآن، ويقدموا أعمالا وحوارات جريئة تحدث تغييرا في بنية الوعي الموروث لتخلق وعيا جديدا في المجتمع؟
أن عفراء وضعت نموذجا يجب أن تتبعه كل القنوات التلفزيونية، بأن لا تتقيد بشعارات السياسيين، يجب أن تخلق لها واقعا جديدا، الهدف منه إنتاج الثقافة الديمقراطية. وهنا يجب تناول دور الإعلام الحكومي. هل يستطيع أن يخرج من جلباب السلطة وتصوراتها، وأن لا ينتظر تعليمات القيادات الفوقيه، أن الحرية لا تعطى بل تؤخذ أخذا. فالذي ينتظر تعليمات السلطة لا يقدم جديدا، لأنه يريد فقط أن ينفذ ما يملأ عليه. ويؤكد ليس لديه رؤية ولا قدرة على تحليل الواقع السياسي في البلاد. أن القاعدة الأساسية التي يجب أن ينطلق منها الإعلام تكون الإجابة على سؤال واحد فقط: كيف يستطيع أن يخلق الشروط والوعي لقيام الدولة المدنية الديمقراطية؟ فهل إبراهيم البزعي مدير هيئة الإذاعة والتلفزيون مدرك للدور الذي يجب أن يلعبه الإعلام في هذه الفترة. أنني شخصيا اعرف إبراهيم البزعي رجل مهني قدير، ورجل مبدع، منذ أن تم تعينه في الإذاعة في اوائل ثمانينيات القرن الماضي، وهو رجل غير منتمي سياسيا. لكن المشكلة أن النظم الشمولية “عبود– نميري– الإنقاذ” خلقت ثقافة الرقيب الذاتي عند الإعلامي حتى لا يخرج من جلباب ثقافتها، بسبب احتكاريتها للإعلام وتوظيفه التوظيف الكامل لحماية تلك النظم، فالعملية تحتاج لشجاعة وتصور وتحليل للواقع. لكي يبدأ الإعلام أن يلعب دورا مهما في عملية التحول الديمقراطي، فالإعلام غير مقيد بالشعارات والتابوهات التي ينتجها السياسيون، هو مهمته أن يتعامل مع الواقع بكلياته بهدف تقديم التشخيص السليم للواقع، ومعرفة المكنزمات المحركة له والرؤى المطروحة فيه، وهي المعلومات المطلوبة خاصة للذين يشتغلون بالفكر لكي يقدموا تصوراتهم للحل. فهل إبراهيم البزعي على قدر التحدي المطلوب من أجل تقديم برامج تحدث تحولا جديدا في معادلات السياسية لمصلحة الديمقراطية وحل الأزمة؟ فالقضية ليست أن تستضيف بعض السياسيين للحوار في برنامج، ما هية الأسئلة التي يجب أن تطرحها بكل شجاعة وأحترام، وأيضا أختيار السياسيين الذين لديهم القدرة على الخروج من الصندق وتقديم الأفكار التي تساعد على تحقيق الهدف.
أن عفراء من خلال هذه اللقاءات بينت أن فكرة الحوار بين التيارات السياسية المختلفة ممكنة، وليست مستعصية. وهي رؤية إعلامية سليمة. باعتبار أن الإعلام والإعلاميين يجب أن لا يتعاملوا مع الواقع بالسندات الحزبية المغلقة والمشروطة، والذين يعملون في مجال الإعلام يجب أن يفكروا خارج دائرة التفكير التي تحاول أن ترسيها العقليات السياسية. ويجب استيعاب أن ادوات الإعلام ليست هي أدوات السياسي واللغة المستخدمة واحدة. كما أن الإعلام يجب أن يكشف بشكل واضح الرؤى المطروحة في الساحة ويبين أين نقاط الاتفاق واين الخلاف، حتى يستطيع أن يخلق وعيا جديدا يتجاوز الوعي المبني على الثقافة الشمولية، ويجب التأكيد أن الثقافة الديمقراطية تنتج من خلال الممارسة المستمرة، والحوار بين التيارات الفكرية المختلفة. ونواصل الحديث في ذلك. نسأل الله حسن البصيرة للجميع.