بقلم: زين العابدين صالح عبدالرحمن
للمرة الثالثة يخرج الجنرال من متاهته، ويربك الساحة السياسية، قدم الجنرال خطاباً قصيراً يحتوي على عدد من القضايا حمالة أوجه، وتقرأها كل قوى سياسية بما يتوافق مع المصالح التي كانت تنتظرها، أن لحظات التوتر والإندهاش المفاجئة دائما تفضح الرغبات المستترة، وتتوارى الشعارات في تلك الحظة، لأنها لحظة الحقيقة مع النفس والسياسي المقتدر هو ذالك الذي يستطيع أن يقرأ أي خطاب سياسي بتجرد لمعرفة المغذي، ويجيره لمصلحة عملية التحول الديمقراطي.
استمعت للمؤتمر الصحفي لقوى الحرية والتغيير، والأساتذة الثلاث الذين تحدثوا في المؤتمر، أخذ المتحدثون خطاب البرهان من زاوية واحدة، أنها مناورة سياسية يريد بها المكوث في السلطة، وواحدة من إشكالية النخبة السياسية إنها تعودت أن تبني على السالب وتكرس كل جهدها بعد ذلك لكي تقنع الآخرين برؤيتها. وكان أيضا أن تبني رؤيتها على الإيجابي إذا أعتبرت مغادرة العسكر للسياسة هو فتح مبين للقوى المدنية ويمكن أن تسيطر على السلطة تماما.
الغريب في الأمر أن الأستاذ عمر الدقير قال أن الخطاب فرضته الضغوط الجماهيرية. وهذه حقيقة وكان عليه وفقا لصلابة الجماهير أن يؤسس رؤيته عليها، ويضع تصورا أن يحولها من مناورة إلي حقيقة مادامت الجماهير يقظة، ويصبح الحديث كيف يتم ملأ الفراغ بعد الانسحاب، لكنه للأٍسف عرج هو وزملائه لتوصيف الأزمة التي يعيشها كل الناس، فتحدثوا عن الإصلاح الأمني والاقتصاد والعدالة ومحاسبة القتلة وأن يكون هناك جيشا واحدا وأن البرهان لم يعزل الذين عينهم كل ذلك كان من المفترض أن يقوم به البرهان قبل أن يقدم خطابه ثم يغادر متاهته.. ألخ، لا تريد التفاوض معه وتريده أن لا يمارس السياسية وفي نفس الوقت تطالبه أن يصدر كل تلك القرارات، هذا تناقض في الخطاب.
هناك سؤلان مترادفان يجب أن تجيب عليهما قوى الحرية والتغيير والحزب الشيوعي ولجان المقاومة والثائرين والقوى السياسية الأخرى والمثقفين من هي الجهة التي يقع عليها عبء الإصلاح وتكوين المؤسسات العدلية والمفوضيات وإصلاح الاقتصاد وإصلاح المؤسسات النظامية جميعها وتكوين المجلس التشريعي ومجلس سيادة وتفكيك بنية دولة الحزب الواحد لمصلحة التعددية العسكر أم هي القوي السياسية؟ هل الجميع يستوعب معنى انسحاب المكون العسكري من الحوار؟ والمعلوم أن الحوار سياسي هو المفترض أن يجيب على تلك القضايا.
باعتبار أن الحوار بين القوى السياسية هو حوارا سياسيا يتناول كل القضايا من تفكيك بنية الدولة الشمولية لمصلحة التعددية السياسية، إلي إصدار كل القوانين التي تحتاج إليها الفترة الانتقالية، إلي جانب أختيار رؤساء المفوضيات، وكيفية إصلاح الأجهزة العدلية، ورسم معالم السياسية الخارجية وغيرها من القضايا المطلوب النظر فيها في الفترة الانتقالية. بذلك الحوار يكون تلقائيا قد سقط الانقلاب، بل تجاوزه التاريخ، لآن صناعه قد خرجوا من الساحة السياسية وفقا لخطاب البرهان. وتكتمل المدنية عند اختيار رئيس الوزراء ومجلسه ويتم حل مجلس السيادة، وتصبح السلطة جميعها في يد المدنيين، وهم الذين يديروا دولاب الدولة وتصبح المؤسسة العسكرية تابعة للسلطة المدنية. مثل هذه القضايا تناقش بعيدا عن الحساسيات وبعيدا عن التشفي، لكن بعض القيادات السياسية إيمانها بالعملية الديمقراطية وبناء الدولة المدنية الديمقراطية شعارات تكتيكية فقط. عند أختبارها تنسى كل تلك الشعارات وتصبح المصالح الضيقة هي سيدة الفكرة.
أن إشكالية الاستحواذ على السلطة ليست هي رغبة مضمرة فقط عند العسكريين، بل هي الفكرة التي تصدع القوى المدنية، وكل قوى سياسية وتحالف يريد أن ينسحب العسكر من السلطة ويسلمهم مفاصل السلطة، الأمر الذي يعقد المشكل. عندما تتحدث قيادات قوى الحرية والتغيير أن البرهان أغفل مخاطبة حقيقة الأزمة، هي تعني أنه انقلب على سلطة، وبالتالي يصبح أنهاء الانقلاب إرجاع السلطة للذين انقلب عليهم، وأيضا عندما يشن الحزب الشيوعي هجوما على قوى الحرية والتغيير بهدف إخراجها من الملعب السياسي كقوى متحالفة لأنها تتمسك بقيادتها للفترة الانتقالية، لأن قيادته هي ايضا تريد أن تتسلم مفاتح البلد حتى تهندسها ثوريا، وأيضا بعض لجان المقاومة المنتمية سياسيا دخلت سوق المساومات السياسية إلي جانب بقية الأحزاب الأخرى في الساحة من إسلاميين وغيرهم. فالصراع على السلطة هو الذي أفشل الفترة السابقة وهو الذي سوف يجهض أي تصور لعملية التحول الديمقراطي.
وكل قوى تريد أن تكون هي الحاضنة السياسية للفترة الانتقالية وتهندس البلاد وفقا لتصوراتها وحدها دون الآخرين، فالصراع من أجل التحكم في الفترة الانتقالية إذا لم تتركه القوى السياسية جانبا وتجلس وتتحاور من أجل أن تختار عناصر مشهود لها بالكفاءة والخبرة والنزاهة والشفافية ولها الحنكة السياسية، أن البلاد لن تتعافى وتخرج من أزمتها حتى بعد مغادرة العسكر للساحة السياسية أن الدولة الديمقراطية لا تبنى باحتكارية السلطة لكنها تحتاج للتوافق الوطني وأكبر قاعدة اجتماعية مناصرة له. وأن شباب الثورة قد سجلوا في تاريخ الشعوب أن الشعب السوداني قد وضع حدا للانقلابات العسكرية ولعقل البندقية، فهل القوى السياسية فهمت هذا الدرس، نسأل الله التوفق والنصر المبين.