بقلم: زين العابدين صالح عبدالرحمن
أستلف هذا العنوان من المفكر السياسي اليساري الأمريكي ذو الأصول الألمانية هربرت ماركوزا أحد مؤسسي معهد فرانكفورت للدرسات الاجتماعية في ألمانيا في كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد” وهو يحاول في الكتاب أن يشرح ماهية المجتمع الأحادي البعد، يقول دائما في مثل هذه المجتمعات الآحادية تقل فيها المباديء التي كان يركز عليها، خاصة في قضايا الحقوق والحريات، وتصبح شعارات ليس لها واقعا في الحياة الاجتماعية. ورغم أن ماركوزا يركز على المجتمع الصناعي وتتبع تطوره وتراجعات المبادئ التي كان يبشر بها الناس، لكن إذا حملنا ذات الفلسفة لدراسة ظاهرة انتكاسة النخبة السياسية السودانية في تحقيق عملية التحول الديمقراطي، نجد أن السياسي السوداني ذو الإنتماءات الأيديولوجية متقلب الأراء، تحكمه مصلحة واحدة “فكرة السلطة” والهدف منها هو كيف القبض على مفاصل السلطة والتحكم فيها، وفي ذلك لا يتردد في رفع شعارات تحمل المقصد “الديمقراطي” رغم أن الأحداث تكشف زيفها، لأنها غير مأصلة في مرجعيتهم الفكرية، ومع الشعارات؛ يحاولون استخدام العديد من الفزاعات بهدف ممارسة الضغط والمنع لأي نقد يحاول تفنيد ممارساتهم، الأمر الذي يؤثر على مساحات الحرية والحقوق المطلوبات القاعدية لعملية التحول الديمقراطي في المجتمع.
أن الصراع الدائر في الساحة السياسية الآن ليس من أجل عملية التحول الديمقراطي، بل مرتبط بالمصالح الحزبية الضيقة، وهذا كشفت عنه الفترة الانتقالية منذ اغسطس 2019م، حيث استقر الصراع في دائرة التحكم على السلطة، وكيف استمرار القبض عليها، وأغفلت القوى السياسية تكوين المؤسسات التي تؤسس لعملية التحول الديمقراطي. وهذا يرجع لضعف الثقافة الديمقراطية وسط السياسيين السودانيين، وعدم وجود مشروع سياسي مفصل يوضح خطط عملية التحول الديمقراطي، والسبب المهم هي المرجعيات الفكرية للعديد من الأحزاب باعتبارها مرجعيات ليس لها علاقة مع الديمقراطية المرفوع شعاراتها، ومادامت الشعارات الديمقراطية بهدف التكتيك تصبح عثراتها تتوالد من خلال تجدد الأحداث في البلاد.
أن النخب المثقفة في المجتمع رغم غزارة كتاباتها؛ لكنها ذات اتجاه واحد ركزت على مطاردة أحداث الإسلاميين، باعتبار أن تناولها للإسلاميين لا يدخل أصحابها في أي مناكفات مع القوى الأخرى، وتحفظ حق الكتابة، لكنها تستخدم بعدا واحدا في القضية يضمن لها الأمان. باعتبار أن تجربة الإسلاميين في الحكم تواجه نقدا عاما من قبل المجتمع السوداني بكل مكوناته، لكن هؤلاء المثقفين قد تناسوا أن الديمقراطية في أمس الحاجة للمنهج النقدي الذي يطال كل الأخطاء من خلال الممارسة غض النظر عن من إرتكبها، إلي جانب أن المجتمع في حاجة إلي ثقافة ديمقراطية غزيرة لكي تزيل أثار الثقافة الشمولية التي تراكمت عبر النظم العسكرية الديكتاتورية، وخاصة الإنقاذ، فإذا كان المثقفون يتحاشون الحديث عن ممارسات خاطئة مستمرة، وعن ممارسات وأحلام لقوى سياسية تريد أن تجير الأحداث لمصالح حزبية ضيقة، كيف تستطيع البلاد أن تصل للدولة المدنية الديمقراطية.
أن العسكر يشكلون تحدي حقيقي أمام تطور التجربة الديمقراطية في دول العالم الثالث، باعتبار أن ميزان القوة يرجح لصالحهم، وعجزت القوى السياسية أن تحدث توازن في ميزان القوة لصالحها بسبب تنافرها وتشتتها وعدم اتفاقها على مشروع انتقالي يحدث عملية الانتقال ويبني قواعد متينة للديمقراطية، الأمر الذي جعل العسكر يتحكمون على السلطة، لكن الأجيال الجديدة في تصديها منذ اليوم الأول لانقلاب 25 أكتوبر وخروجها ترفض الانقلاب كان بداية موفقة أن تتخلق ثقافة سياسية جديدة في المجتمع تتماشى مع العملية الديمقراطية. أن تنشأ قوى اجتماعية عريضة داعمة للعملية الديمقراطية تنجز مهام الفترة الانتقالية المطلوبة. لكن القوى السياسية لا تريد أن تتزحزح من “فكرة الاستخواذ علي السلطة” تحت شعارات مضللة وهي تلتقي مع توجهات العسكر. وكان المتوقع أن يبرز بصورة واضحة صوت القوى الديمقراطية في الساحة التي توجه الجميع إلي مطلوبات الديمقراطية، ولكن للأسف أن اعدادا من المثقفين وبعض الإعلاميين والصحافيين فضلت أن تتعامل مع القضية وفقا للعواطف والقناعات الخاصة التي تتعارض مع القيم الديمقراطية، الأمر الذي يؤكد أن الثقافة المحمولة تحمل بعدا واحدا يتناقض مع شعارات الديمقراطية المرفوعة.
الديمقراطية لا تقبل الإنسان ذو البعد الواحد في التوجه السياسي، الذي يقدس محمولاته ويرفض محمولات الأخرين رغم أن الديمقراطية هي صراع الأفكار والمشاريع السياسية، لكن من خلال مواعين ديمقراطية منصوص عليها في الدستور ويحترمها الجميع، فالديمقراطية لا تؤسس على الرؤية الواحدة لقوى سياسية، ولا تؤسس على العسكر ذوي الثقافة الشمولية، الذين لا يؤمنون إلا بقرارات التراتبية الوظيفية فقط. فالديمقراطية ليست صراع أفكار فقط أيضا مجايلة، فهل القوى السياسية تستطيع أن تجري مراجعات فكرية لكي تتماشى مع الشعارات التي ترفعها وتتلاءم مع الديمقراطية؟ وهل القوى السياسية منذ سقوط نظام الإنقاذ حتى اليوم استطاعت أن تمزق رداء الشمولية من خلال ندواتها في الهواء الطلق وتثقيفها للأجيال الجديدة ذات التجربة المحدودة؟ أن القوى السياسية تتصارع بصورة فاضحة جدا حول؛ من يحق له السيطرة على الساحة السياسية، وهي فكرة أقرب للشمولية منها إلي الديمقراطية. وأن لجان المقاومة وحدهم الذين يرفعون شعار مقاومة الشمولية ليس هتافا أنما دما مسفوحا على كل الساحات. فهل القوى السياسية قدرت هذه التضحيات وحولتها لافعال ترسخ الأقدام الموجه تجاه الديمقراطية؟ نسأل الله التوافق وحسن البصيرة.