بقلم: زين العابدين صالح عبدالرحمن
أن المشهد السياسي في السودان بعد ثورة ديسمبر 2018م، أصبح متغيرا ومتحولا وفقا للحراك الذي تقوم به القوى السياسية، نتيجة للصراع الذي كانت تقوده ضد نظام الإنقاذ السابق، وأيضا كانت قد ظهرت قوى جديدة في الساحة تحمل أفكارا مناهضة لطريقة التفكير السياسي السابقة التي قادت للفشل. ومعلوم أن تجربة الإنقاذ التي استمرت ثلاث عقود قد أحدثت شروخا وتصدعات في جدارات القوى السياسية التقليدية، وجاءت بقوى جديدة ممثلة في الحركات المسلحة التي دخلت الساحة السياسية خصما أيضا على رصيد القوى التقليدية التاريخية، ثم ظهرت أحزاب جديدة تحاول أن تستفيد من هذه التغييرات، ولكنها قليلة التجربة والخبرة السياسية، وهناك حالة الرفض التي تبديها الأجيال الجديد للموروث السياسي السابق، وتتطلع لدولة مدنية ديمقراطية جديدة، تؤسس على تصورات مغايرة لتجارب الحكم السابقة.
أن تغيير ميزان القوى الذي أحدثه شباب الثورة مع المؤسسة العسكرية، والذي ظهر في مسيرة 30 يونيو 2019م ، تعد طفرة سياسية غير مسبوقة، وتعتبر أهم عامل في عملية التغيير، الذي يريد أن يوقف حركة الدائرة الشريرة انقلاب ثم ثورة، وقد تأكد نجاح التجربة بعد انقلاب 25 أكتوبر، أن توازن القوى الذي أحدثته لجان المقاومة سوف يخرج المؤسسة العسكرية تماما من الساحة السياسية، و خروجها لا يعني أن البقاء على ما تبقى في الساحة السياسية، بل يحتاج إلي تغير أيضا في المرجعيات الفكرية للأحزاب حتى تتلاءم مع التصور الجديد للعمل السياسية حتى يتماشى مع شعار الديمقراطية. الملاحظ أيضا: أن بعد توقيع الوثيقة وتكوين الحكومة الأولى والثانية، نجد أن القوى السياسية والمهنية أهملت لجان المقاومة تماما في المشهد السياسي وتكوينات السلطة، وبعد انقلاب 25 أكتوبر أصبحت لجان المقاومة هي التي تسيطر على المشهد السياسي، وتتحكم في خياراته، وباتت القوى السياسية تلهث وراء رضاها، و البعض يطلب العفو والغفران.
في ظل هذه التحولات جاء حديث محمد حمدان دقلو “حميدتي” قائد قوات الدعم السريع للقناة الفضائية ” BBC” حيث قال (للأسف الشديد، نحن لم ننجح في التغيير، لأسباب لن أتحدث عنها الآن. عندما تفكر في التغيير يكون لديك هدف، ورؤية للتغيير. لكن للأسف الشديد لم يتم الشيء الذي كان مخططا له، وفشل الأمر. والآن سرنا نحو الأسوأ) ثم البيان الذي كان قد أصدره يوم 22 يوليو قال فيه (قررنا سويا إتاحة الفرصة لقوى الثورة، والقوى السياسية الوطنية، بأن يتحاوروا ويتوافقوا، دون تدخل منا في المؤسسة العسكرية) أعتقدت القوى السياسية أن حميدتي يناور عليها، إلا قوى الحرية و التغيير أشادت بالحديث باعتباره اعتراف بالفشل. و بعض قيادات الحرية المركزي مثل عادل خلف الله طالبت بعد الاعتراف بالفشل تسليم السلطة لآصحابها. و لكنهم لم يحددوا من هم أصحاب السلطة الذين يجب أن تسلم لهم السلطة. أن المتابع لحركة و أحاديث حميدتي يتأكد أن الرجل لا يناور و يعني ما يقول تماما، و أن الرجل منذ الخلاف الذي وقع بين قوى الحرية و التغيير و المكون العسكري في الحوار الذي كان دائر حول الوثيقة الدستورية، حيث ذهب حميدتي لتجميع رجالات الإدارة الآهلية و زعماء الطرق الصوفية في الريف الشمالي ثم طاف العديد من المناطق، بهدف خلق قوى مؤيدة للمكون العسكري، يتأكد أن الرجل ينظر سياسيا لما بعد الفترة الانتقالية، و أصبح يساوره الطموح السياسي. أن موقعه في السلطة باعتباره نائبا لرئيس مجلس السيادة منحه فرصة كبيرة جدا للتجول في المناطق السودان المختلفة، و يستقطب فيها قيادات آهلية تدعم طموحه السياسي القادم، و أيضا قيادات وسطية لها القدرة على الحركة وسط مجتمعها.
عندما كانت الجماهير في الشارع تناضل من أجل إسقاط النظام منذ أواخر 2018م، بدأ حميدتي يشتري الصحف التي كانت تعاني من اختناقات مالية، و شراء صحف من قبل قوى عسكري يؤكد على طموح قادتها في لعب دور في العمل السياسي في البلاد. و بعد الثورة بدأت قوات الدعم السريع تدخل ساحة العمل الاجتماعي من خلال مؤسسات مدنية إذا كانت شبابية أو نسوية، و أيضا جمعيات خيرية، حيث امتد عملها للعمل السياسي، و ايضا النشاط في مجال الصحة و الأوبئة و فض النزاعات. إلي جانب الصرف المالي الذي تقوم به القوات على القيادات الأهلية في مناطق السودان المختلفة، و دعم العديد من الأنشطة الثقافية و الفنية للمجموعات الشبابية، و التواصل مع بعض رواد الفن بكل أنواعه، هذه ليست مرتبطة بالبحث عن مخبرين لها وسط المجتمع. بل هو تخطيط محكم لاستقطاب مجموعات مؤثرة في الساحة الاجتماعية يمكن الاستفادة منها في العمل السياسي عندما تشرع قوات الدعم السريع في تكوين المؤسس الحزبية التي تعبر عن تطلعات قيادات الدعم السريع.
كان الإمام الصادق المهدي أول سياسي قد لاحظ طموح قائد قوات الدعم السريع السياسي، و أشار في أحدى مقابلاته الصحفية أن حميدتي أذا كان لديه النية في لعب دور سياسي عليه أن يخلع البزة العسكرية و يكون حزبه السياسي، أو يدخل في حزب سياسي، و أشار أنهم في حزب الأمة ليس لديهم مانع إذا أراد الانتساب للحزب. و عند زيارته لأولى للقاهرة صمم على لقاء السيد محمد عثمان الميرغني و التباحث معه على مستقبل العمل السياسي في السودان. في كلمة لحميدتي في 16 يونيو 2020م بعد اجتماع للجنة الاقتصادية. قال ( سنأتي نحن الذين نرتدي الكاكي بالديمقراطية لغاية ما نوصلها لنهايتها عبر صناديق الاقتراع) أن تخوف الرئيس الأريتري من تمدد حميدتي في الشرق و دعم العديد من قيادات المنطقة هناك، ربما تدفع قيادات الجهاد الإسلامي الاريتري أن تتحرك على مناطق الحدود. و أيضا في كلمة الرئيس المصري في مؤتمر جده الذي حضره الرئيس الأمريكي بايدن حول المليشيات العسكرية في المنطقة يسبب عدم الاستقرار، كان الهدف منها معرفة ردة الفعل الأمريكية تجاه بعض الميشيات، خاصة هناك اتهام أن أمريكا تقف إلي جانب المكون العسكري في السودان، يأتي ذلك انعكاسا للمشهد السياسي العالمي، الذي يميل لعمليات استقطاب الدول الآن، و ينذر بحرب باردة جديدة.
أن طموح حميدتي لكي يكون رئيسا في المستقبل أو قائدا سياسيا، محكوم بالنشاط السياسي و الآليات التي يريد أن تحقق له هذا الطموح. و إذا نظرنا إلي النشاط الاقتصادي الواسع لقوات الدعم السريع و خاصة في مجال التعدين و خاصة الذهب، ثم تجارة المواشي في الأبل و تصدير العجول، و غيرها من التجارة الواسعة لقوات الدعم السريع مع دول الجوار. أن التوسع في التجارة التي تبلغ مليارات الدولارات تحتاج إلي حاضنة سياسية تحمى هذه الثروة. و بيان حميدتي الذي كان قد أكد فيه وجوب دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة. يؤكد أن حماية ثرورة الدعم السريع تحتاج لتأسيس حزب سياسي يخوض من خلاله الانتخابات، التي يدخلها منفردا أو متحالفا مع قوى تقليدية.
إذا كان حميدتي اشترى صحف بالأمس لكي تعينه في الصراع السياسي الآن بدأ مشوار الدخول في الفضائيات، التي تجعل صوته الأعلى على الأخرين. العديد من القوى السياسية تعتقد أن المسرح السياسي سيظل يحتفظ بالاعبين القادمة، و بذات الأدوات القديمة. الغريب في الأمر أن كل القوى السياسية تعتقد أن الدعم السريع سوف ينتهي دوره من خلال دمجه في القوات المسلحة. و الدعم السريع ليس آليات عسكرية أنما هي عقلية أختبرت في العمل العسكري، و لا أحد يستطيع أن يتنبأ كيف سوف تتعامل في المجال المدني و بأي آليات، رغم رشح المعلومات أنها تخطط لكي تدخل في مجال الإعلام في الفترة القادمة بقوة، و هي تحضر لاختيار الشخصيات التي تريد أن تدير هذه المؤسسات.
أن ثورة أكتوبر 1964م كانت الفترة التي بدأت فيها جبهة الميثاق مشوارها السياسي، بقيادة الدكتور حسن الترابي، و استطاعت في فترة وجيزة أن تستفيد من تنقاضات الصراعات السياسية و تصل للأسف السلطة عبر انقلاب عسكري، رغم أنها استطاعت في الديمقراطية الثالث بعد ثورة إبريل أن تحرز نتيجة كبيرة جعلتها على مقدمة القوى السياسية، لكنها فضلت الانتحار بالانقلاب العسكري، و ضيعت تاريخها السياسي، و كما ذكرت أن الحزب هو عقلية سياسية مشحونة برؤى و مشاريع سياسية تكشفها الممارسة. و قوات الدعم السريع كقوى عسكرية أيضا خسرت مساحات وسط الجماهير منذ انتصار الثورة حتى الآن. هل تستطيع أن تمحو أفعالها العسكرية ضد الثوار، و ما حدث في ساحة الاعتصام من خلال مؤسسة سياسية. هو الامتحان الذي سوف يواجهها، فعقل البندقية الذي يدير المؤسسة العسكرية يجب أن يختلف عن العقل السياسي الذي يدير صراعه بأدوات سلمية، عقل لابد أن يوضح ما هي مرجعيته الفكرية التي يجب أن يحاكم على ضوئها، فالمشوار السياسي في ساحة ديمقراطية أكيد أفضل من شوار عسكري على نقيض في ثقافته مع الديمقراطية. نسأل الله حسن البصيرة.