بقلم: زين العابدين صالح عبد الرحمن
كان ونيستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، أحد إبرز القادة السياسيين الذين خاضوا الحرب ضد ألمانيا الهترلية. وقبل ما يصير رئيسا للوزراء كان ضابطا في الجيش البريطاني، وكان أيضا كاتبا ومؤرخا وكان رساما يهتم بالفنون وكتابة السيناريوهات مما أهله أن يمنح جائزة نوبل في الأداب، وكل هذه الاهتمامات أهلته أن يكون سياسيا بارعا قاد دولته في الحرب العالمية الثانية، و رغم أن المانيا استطاعت أن تقصف لندن بعشرات الألاف من الصوايخ والقنابل لكنه لم يستسلم حتى انتهت الحرب. لذلك كانت لاقواله صدى في العالم. و عقل تشرشل هو المطلوب الآن أن يهندس عملية بناء السودان الجديد، مادامت النخبة السياسية السودانية قد تعثرت خطاها تماما، و ضرب بينها عطر منشمي، فهي تنظر للأزمة من خلال عين واحدة كيف تستطيع أن تضع أقدامها على عتبات السلطة.
هناك اقوال عديدة لترشرشل أعتبرت حكم تقال في مناسبا أهمها الحقل السياسي، حيث يقول (ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم بل هناك مصالح دائمة – ويقول- ويقول – النجاح هو الانتقال من إخفاق إلي أخفاق دون فقدان الحماس – ويقول أيضا – أذا كنت ترغب بحق في اكتشاف بحار جديدة ، يجب عليك أن تتحلى بالشجاعة اللازمة لمغادرة الشاطيء) هذه الحكم مايزال العالم يتعامل بها باعتبارها منارات في طريق المصالح.
أن النظر للأزمة السياسية التي يمر بها السودان بعد سقوط نظام الإنقاذ، وحتى بعد إنقلاب 25 أكتوبر 2021م، هي أزمة عقل سياسي، محاصر بين فترة تاريخية طويلة من فشل النخبة السياسية منذ الاستقلال حتى اليوم. وعقل سياسي جديد بدأ يتخلق منذ خروج الجماهير في شوارع مدنها في الثلاث شهور الأخيرة من عام 2018م، هذا العقل الجديد بدأ يتخلق بوعي مغاير وتصورات جديدة لبناء دولة مدنية ديمقراطية، وهو عقل غير مرهون للإرث الثقافي السياسي السابق الذي يحمل في أحشائيه كل جينات الفشل، هذا التصادم بين الرؤى، هو سبب تعميق الأزمة السياسية في البلاد. عقل جديد عنده فكرة التأسيس هي التصور لبناء ونهضة الدولة الجديدة، وحدد شعارها “حرية سلام وعدالة” وعقل محكوم بالفشل إذا كان عقل عسكريين حكموا البلاد أكثر من نصف قرن، وفشلوا في تحقيق التنمية وما يزال قلبهم معلقا بالسلطة. وأحزاب تاريخية تستند لتاريخ من الفشل، و لا تعرف طريق لبناء الأوطن إلا أن تكون هي في سدة السلطة. الأمر الذي يزيد الأزمة كل يوم تعميقا.
أن الحوار بين الفرقاء في ظل صراع السلطة الدائر على حكم البلاد في الفترة الانتقالية، لن يتحقق حتى إذا قدم الكل تنازلات للجلوس من أجل الحوار. لأن الخلاف سوف يتفجر مرة أخرى عندما يصل الكل إلي تكون مؤسسات الفترة الانتقالية، باعتبار كل قوى تنتظر معرفة حصولها من قسمة كيكة مؤسسات السلطة، لأن القلوب معلقة بالسلطة وليست بعملية البناء والنهضة. الأمر الذي يفتح بابا لدخول المجتمع الدولي. لكي يوفق بين الفرقاء، والكل رغم أنهم يشيدون ببروز العقل الجديد في المجتمع، لكن الكل يريد أن يقتاله في المهد حتى لا يؤثر على مصالحهم مستقبلا. وحتى المجتمع الدولي عندما يتدخل حماية أيضا لمصالحه، ودائما يحاول أن يدفع بالعناصر التي تسهل حصوله على هذه مصالح.
بدأ السفير الأمريكي الالتقاء مع القوى السياسية و لجان المقاومة وأسر الشهداء، وسوف يواصل الحوار مع أغلبية القوى السياسية ماعدا المؤتمر الوطني، حسب ما جاء في الوثيقة الدستورية، لأنها تمثل مرجعية له حتى إذا أقرت كل القوى السياسية والعسكر بأنها سقطت، ودائما النخبة السودانية تفكر بما تملك من الثقافة، و هي أقرب في تكوينها للثقافة الشمولية منها للثقافة الديمقراطية بسبب طول الفترات الشمولية وتراكم ثقافتها. السفير الأمريكي عندما يتحاور مع الأخرين حول الوصول للدولة الديمقراطية سوف يتعامل بثقافته الديمقراطية التي تعلمها بمشواره المعرفي وتجربته السياسية في مجتمعه، وغير محكوم أن يستبدلها بثقافة مزيج من الشمولية و بعض من الديمقراطية التي تستوطن الأن البلاد، و أيضا لن يتناسى مصالح بلده في السودان. وأيضا يحتاج إلي مرجعية ديمقراطية متوافق عليها في تعامله مع كل المكونات. فالثقافة الديمقراطية تقر بالمرجعية حتى إذا أختلف عليها الناس لكن في وقت ما كانت تشكل لهم مرجعية متوافق عليها.
أن النخبة السياسية السودانية، وحتى أغلبية المهتمين بالشأن السياسي تغلب عليهم العواطف و قناعاتهم الشخصية في التعامل مع أحداث الواقع السياسي، وعندما يفرض الواقع شروطا جديدة في العملية السياسية يصابوا بالصدمة. مثالا لذلك أغلبية الذين يملكون التعامل بالعاطفة، اعتقدوا أن سقوط نظام الإنقاذ يعني نهاية كاملة لكل الذين ارتبطوا بهذا النظام، و بالتالي سوف يصبح الملعب السياسي خالي من هؤلاء تماما. هذه نظرة خاطئة وقاصرة و لم تقرأ الواقع قرأة صحيحة. كان على النخبة السياسية أن تتوقع أن الصراع السياسي سوف يستمر لسنين. باعتبار ثلاث عقود جعلت هناك ألاف الناس ترتبط مصالحهم بهذا النظام، وهؤلاء سوف يدافعون عن مصالحهم بشتى الطرق، ويشكلون تحدي للنظام الجديد. لكن أصاب القوم الإندهاش، و بدأ الصياح أن الفلول بدأوا يتحركوا. وكان على النخبة السياسية أن تتوقع ذلك حتى إذا كان الجيش خارج اللعبة السياسية.
أن السفير الأمريكي في بحثه عن إيجاد حل للأزمة السياسية في البلاد، ينطلق من معادلة داخلية وخارجية، الأولي أن تأسيس ديمقراطية في البلاد لابد أن تستند على أكبر قاعدة أجتماعية تخلق معادلة لتوازن القوى في المجتمع، وأيضا لابد أن يراع القوى الأخرى متمثلة في القوات المسلحة التي تشكل أكبر مهدد للديمقراطيات في دول العالم الثالث، أن يحاول أن يجعلها قوى تناصر الديمقراطية، ولا تنقلب عليها، لذلك سوف يكون عنده الاهتمام الكامل أن يكون هناك جيشا مهنيا واحدا ذو عقيدة قتالية وطنية، وحامي للنظام الديمقراطي والدستور. لذلك لا يستطيع أن يبعد الجيش في الفترة الانتقالية بشكل كامل. القضية الخارجية؛ لابد أن ينظر للصراع الدائر بين المعسكرات المختلفة وتأثيره على البلاد، و مدى دعمه للعملية الديمقراطية في السودان، إلي جانب دول الجوار وموقفها من القضايا في السودان. فالديمقراطية ليست فقط توافقا وطنيا وقبولا جمعيا، أيضا هي تحسبا لكل المخاطر التي تهددها داخليا وخارجيا.
أن تدخل المجتمع الدولي لحل الأزمة السياسية في البلاد، تحكمه مصالح عديدة، ولا ننسى مقولات ونستون تشرشل الذي يرددها العديد من المثقفين، وتوازن القوى مطلوب ليس من أجل إرضاء البعض، لكن لكي يشكل أرضية صلبة للنظام الديمقراطي. أن التنوع الذي يتحدث عنه العديد من السياسيين والمثقفين لابد أن يشكل عمودا فقريا للنظام الديمقراطي الجديد، والتالي تصبح عملية مخاطبة جذور المشكلة هي المتغيرات التي سوف تفرضها عملية الحل السياسي، وليس تسليم السلطة لفئة دون الأخرين. وكما يقول المفكر علي حرب (فمن لا ينتج معرفة بالمجتمع لا يستطيع المساهمة في تغييره. ومن لا يبدع فكرا هو أعجز من أن يؤثر في مجرى الأحداث وتطور الأفكار) ومادام المجتمع الدولي ممثل في السفير الأمريكي والاتحاد الأوروبي هم الذين يتدخلون لحل المشكل، يصبح هم الذين سوف يتعاملون مع الواقع السوداني وفق ثقافتهم و مصالحهم، وليست الثقافة التي يقدمها السودانيون كمواثيق لهم. سوف يقرأون هذه المواثيق لكن سوف يتعاملون مع الأزمة بما يملكون من ثقافة ديمقراطية، تشرشل سوف يظل حاضرا بمخالفاته من حكم وأقوال مأثورة في هذا الحل السياسي. ونسأل الله حسن البصيرة.