بقلم: زين العابدين صالح عبدالرحمن
أن تعقيد الوضع السياسي الذي يشهده السودان اليوم، ليس بسبب أجندة سياسية لقوى مقابل الأخريات، لكنه نتاج طبيعي لثورة ديسمبر التي دفعت بتيارات وفئات جديدة في المجتمع للساحة السياسة، ولهذه التيارات والفئات وعي مغاير لثقافة سياسية تقليدية كانت سائدة في البلاد منذ الاستقلال، أو بمعنى أصح أن هناك عقل جديد بدأ يبرز في الساحة السياسية لم يستطيع العقل التقليدي استيعاب أطروحاته رغم افتقاد العقل الجديد للخبرة والتجربة، إلا أن أصراره يفتح له أفاقا تجعله قادر على أن يستخدم أدوات لتكتيك والمناورة التي جعلته يسيطر على الساحة السياسية، وجمود العقل التقليدي جعلته يميل للأدوات الصفرية، وهي أدوات تعطل قدرة العقل على قراءة الواقع وتحليله بصورة جيدة، وأيضا عدم معرفة الميكانيزمات المحركة بصورة إيجابية لخلق واقع الديمقراطية في المجتمع. أن مرونة العقل الذي يستند على الفكر تؤهله أن يحتل مساحات جديدة في كل حوار يمكن أن يقيمه مع القوى المختلفة معه لخدمة برنامجه.
والحوار السياسي مسألة مهمة لتهيئة البيئة التي تساعد عملية التحول الديمقراطي في البلاد. وأيضا يتيح للقوى السياسية قراءة الأفكار عند الجانب الأخر. كما يقلل فرص بروز العنف في المجتمع، كل ما كانت القوى السياسية واعية لدورها تستطيع أن تطرح الموضوعات التي تغيير مجرى الحوارات السالبة المناطقية والقبلية والعنصرية وغيرها. مثل هذه الحوارات السالبة تأتي نتيجة لعدم فاعلية القوى السياسية في الساحة وعدم قدرتها على تقديم البرامج التي تؤسس على المعرفة.
أن الوثيقة الدستورية التي قدمت من قبل لجنة تسيير نقابة المحاميين أصبحت مقدمة على الوثائق الأخرى بسبب القبول الذي وجدته من أحزاب لها قواعد اجتماعية عريضة، وأن فتح الحوار حولها يساعد على استقطاب فئات أجتماعية أخرى. وقال عنها فوكلر بيرتس رئيس البعثة الأممية في السودان في كلمته أمام مجلس الأمن (أنّ مبادرة نقابة المحامين تجمع الآن طيفًا واسعًا من القوى المدنية حول رؤية واحدة، بما في ذلك أحزاب قوى الحرية والتغيير-اللجنة المركزية التي اعتمدت عليها حكومة رئيس الوزراء السابق حمدوك وأطراف ذات صلة لم يكونوا في تلك الحكومة مثل الحزب الاتحادي الديمقراطي، وبعض من موقعي اتفاق جوبا للسلام الذين ما زالوا موجودين في مجلس السيادة اليوم (أن إبراز مبادرة اللجنة التسيرية لنقابة المحامين من قبل رئيس البعثة الأممية تعني أنها القاعدة التي سوف تنطلق منها الرباعية لحل الأزمة السياسية. و أي حوار بين القوى السياسية يجب أن يكون مؤسسا على هذه الوثيقة.
و في رأي مخالف لوثيقة المحاميين، تناولت كلمة جريدة الحزب الشيوعي ” الميدان” الصادرة يوم 15 سبتمبر 2022م، استمرار خداع المجتمع الدولى للقضية السودانية و جاء فيها ( في بيان مشترك أكدت سفارات فرنسا و المانيا و هولندا و إطاليا و السويد و اسبانيا و الولايات المتحدة و المملكة المتحدة أن مسودة الدستور التي صاغتها نقابة المحامين السودانيين و التي تتمتع بتأييد واسع تعتبرها هذه السفارات مبادرة جادة و مشجعة في طريق استرداد الحكم المدني) و أضافت الكلمة ( أن كل القوى الدولية و الأقليمية و أمتداداتها الداخلية المصرة على فرض التسوية السياسية تتناسى عن عمد المواكب الجماهيرية العارمة التي ظلت تسيرها تنسيقيات لجان المقاومة في العاصمة و الأقاليم و التي تجد التأييد المنقطع النظير من كل القوى السياسية و المدنية) أن الزملاء لا يستطيعون مغادرة محطة الرفض إلي مساندة فعل الأخرين، و لا يرون في مرآة السياسة إلا أنفسهم، الأمر الذي يجعل الحزب غير قادر للتفاعل مع الأحداث.
وإذا كانت قوى الحرية و التغيير استطاعت من خلال فعلها التكتيكي، أن تحرك ساكنا من خلال الوثيقة الدستورية للمحامين، و تفرض شروطا جديدة للعملية السياسية بهدف تغير المعادلة، و الخروج من الأزمة و إنقاذ الوطن من التشظي و الحرب، تكون محمدة لها، و تبين قدرتها على التكتيك و المناورة لكي تخلق واقعا مغايرا يستطيع فيه العقل السياسي أن يقدم إبداعات الحلول. من أبرز إبداعات حركتها أن تقنع لجنة التسيير أن تشرع في العمل من أجل إنتاج وثيقة دستورية الهدف منها توسيع قاعدة المشاركة وتجميع أكبر كتلة مجتمعية، و هذه تعد تحولا أيجابيا في طريق الخروج من الأزمة. و معلوم أن السياسة لا تقبل السكون و لا الفراغ. و لا ينحصر العمل السياسي أن تصدر القوى السياسية بعض من الشعارات و تقعد لكي تحرسها، بل كيف تستطيع أن تكسب مساحات جديدة، و تفعل كل الأدوات لكي تكسر جدار الأزمة، و هذا الذي فعلته قوى الحرية و التغيير المركزي، و من خلال هذه الوثيقة تفتح حوارات مع كل الكتل التي تعتقد إنها بعيدة عن شعارات التغيير، أو حتى التي تختلف معها في تفاصيل الوصول للدولة المدنية الديمقراطية، و معارك الحرية ليس هي معركة شعارات لوحدها، بل هي معركة فكرية ثقافية تحتاج لعمل عقلي منتج عبر الممارسة و الأفكار للثقافة الديمقراطية.
وفي ذات محطة الخروج من شرنقة الأزمة، وصف القيادي بحزب المؤتمر السوداني مهدي رابح في حديث لصحيفة “الجريدة” ( أن الوضع الحالي غير مطمئن، وحذر في الوقت ذاته من استمرار ما وصفها بالمناورات السياسية لجهة أنها ستدخل البلاد إلى حافة الهاوية وتوصلها الى محطة الوضع كارثي التي لن يكون فيها منتصر او مهزوم.) أن وضع البلاد دون حكومة قرابة السنة وضع شاذ، و يجب على كل القوى السياسية المؤمنة بعملية التحول الديمقراطي أن تبحث عن الحل، و في ذات الوقت أن ترتب سلم الأولويات، و تغيير طريقة التفكير التي قادت لهذه الأزمة، فالحديث الذي كان قد أدلى به جعفر حسن القيادي في التجمع الاتحادي حول كيفية العمل من أجل أن تستقطب كل القوى المؤمنة بعملية التغيير الديمقراطي في جانب واحد، يكون داعما و مساندا أفضل من أن تجعله غنيمة للقوى المعارضة للديمقراطية. و هذا تفكير مغاير للسابق الذي أدى للفشل، لكنه يفتح أفاقا أرحب للحوار و الخروج من الأزمة. أما الزملاء يريدون أن ترفع شعارات مقدسة دون أي فعل أو برنامج يحرك الساحة السياسية.
وفي ذات الموضوع قال نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي” (أنه عقد اجتماعا مع رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان و أقر الاجتماع بشكلٍ قاطع أن يتولى المدنيين اختيار رئيسي مجلس سيادة و الوزراء) و أضاف قائلا ( أنهم ملتزمان بتعهداتهما السابقة بخروج المؤسسة العسكرية من المشهد السياسي والانصراف تماماََ للمهامها المنصوص عليها في الدستور والقانون وكشف أن لقائه مع البرهان جدّدا خلاله التزامهما السابق بخروج الجيش من السلطة وترك أمر الحكم للمدنيين) هذا الحديث يجب أن تغتنمه القوى المدنية، و تحاول أن تصل إلي توافقات بينها من أجل تشكيل مجلسي السيادة والوزراء، إلي جانب المجلس التشريعي وكل المؤسسات المطلوبة لعملية التحول الديمقراطي، خاصة المؤسسات العدلية والمفوضيات وغيرها، والابتعاد عن المناكفات التي تجر البلاد لطريق التهلكة،
ودون الإنزلاق إلي سياسة المحاصصات التي قد فشلت الثلاث سنوات الماضية من عمر المواطن والوطن، وعملية التحول تحتاج للقاعدة الاجتماعية العريضة، وليس للإجماع، فهناك قوى سياسية ستظل تعارض، وإذا خرجت من دائرة المعارضة يعني انتحارا مع سبق الأصرار، هؤلاء لا يمكن أقناعهم بالمشاركة. نسأل الله حسن البصيرة.