بقلم: زين العابدين صالح عبد الرحمن
شعب السودان هو الأكثر تجربة في إفريقيا و الشرق الأوسط منازلة ضد القوى الديكتاورية، الممثلة في سلطة المؤسسة العسكرية والأحزاب التي تتحالف معها، وأغلبيتها كانت قوى أيديولوجية تريد فرض مشروعها السياسي بتحالف السياسة مع العسكر. و رغم أنتصار الشعب في معاركه ضد الديكتاتورية، لكن سرعان ما تخذله الأحزاب التي توكل إليها مهمة عملية التحول الديمقراطية. و قد تكررت التجربة عدة مرات، والغريب في الأمر أن النخب السياسة لا تستفيد من تجارب الماضي. بل تقع في ذات الأخطاء. الغريب في الأمر تتغير الأجندة بعد سقوط النظام الديكتاتوري، ويغيب المشروع السياسي، وتتغير الأجندة عند القوى السياسية، فيتحول شعار العمل من أجل الديمقراطية ” التحول الديمقراطي” إلي شعار الحفاظ على السلطة، وهو شعار يظهر الرغبات الحقيقية في مخيلة بعض القوى السياسية، و يتضح من التجارب أنها لا تملك الأليات المطلوبة لتامين السلطة الجديدة، أو أن أليات الحفاظ على السلطة تكون في أيدي القوى التي تريد أن تشاركها السلطة، وتغفل الأحزاب عن ذلك…! أن تغيير الأجندة يقود لمضار، يفقدك تضامن القوى التي كان لها الفضل في عملية التغيير، والتي استطاعت أن تحدث تغيير في ميزان القوى في المجتمع، مما جعلها تنتصر على الديكتاورية. والصراع داخل دائرة القوى القابضة على السلطة بعد رحيل النظام السابق تفتح مسارات لدخول قوى أخرى تستطيع أن توسع الراتق بين القوى القابضة على السلطة لكي تحدث واقعا جديدا في توازن القوى. وتغيير ميزان القوى هو الذي يؤهلها للعودة.
والمشكلة ليست في الأحزاب وحدها؛ حتى في النخب المثقفة، إذا كانت في الإعلام أو في الصحافة، أو حتى في منظمات المجتمع المدني، كل هؤلاء يقع عليهم عبء مراقبة المسرح السياسي، ولفت نظار النخب السياسية بأن مسارها في تغيير الأجندة سوف يؤدي إلي تغييرات في المسرح السياسي، وهي تضر بعملية التحول الديمقراطي المطلوبة. لكن للأسف أن هذه النخب المثقفة بعضها يقع في دائرة الاستقطاب السياسي، والبعض الأخر يكون مشدودا للعواطف الخاصة بعيدا عن الموضوعية ” Like and dislike ” الأمر الذي يجعل الكل عندما تقع الطامة في حالة من الإنذعاج، رغم أن أغلبية الذين درسوا الفكر السياسي يعلمون أن السياسة ليست من المسائل الثابته حتى في القناعات المبدئية، لأنها مرتبطة بالمصالح، وبالتالي هي مواجهة بمتغيرات بصورة مستمرة، الأمر الذي أوعز لعلماء الإستراتيجية وإدارة الإزمات أن يأتوا بفكرة استخدام وسائل مساعدة مثل ” المناورة والتكتيك” لكي تخدم الفكرة الكلية، أو الإستراتيجية المراد تحقيقها على الواقع. لكن هل القوى السياسية الراغبة في عملية التحول الديمقراطي عندها القدرة على استخدام التكتيك بشجاعة وفاعلية يمكنها من نجاح عملية التحول الديمقراطي المطلوبة؟.
استغربت جدا للتوجيه الذي كان قد جاء في حديث ياسر عرمان عضو المجلس المركزي لتحالف (الحرية والتغيير) لجريدة (الشرق الأوسط) عن عودة الإسلاميين مرة أخرى للسلطة. حيث قال ” أوجه تحذيرين للمجتمعَين الإقليمي والدولي، من مخاطر وشيكة تتهدد البلاد، بسبب اقتراب أنصار النظام السابق الإسلاميين من استعادة السلطة التي فقدوها مع سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير في أبريل (نيسان) 2019 بفعل ثورة شعبية. كما حذر عرمان من محاولات يبذلها الإسلاميون لخلق فتنة بين القوات المسلحة وقوات «الدعم السريع»، على أمل إضعافهما والتسلل إلى داخلهما للسيطرة على الدولة؛ مشيراً إلى أن حدوث ذلك قد يهدد الأمن الإقليمي” وياسر عرمان ليس ناشطا سياسيا، بل هو معترف سياسة لأكثر من أربعة عقود. وكان عليه أن يقرأ الساحة السياسية بموضوعية خلاف الأخرين، لأن الإسلاميين كانوا في السلطة ثلاثة عقود، وقد تحالفت معهم قوى سياسية عديدة، ورجال إدارة أهلية، وطرق صوفية، وكل هؤلاء كانت تربطهم مصالح بالنظام السابق، لا يعني سقوط النظام أن انصاره سوف يذهبوا إلي حال سبيلهم لكي يقرره لهم الأخرين، هؤلاء ينتمون لقوى أيديولوجية منظمة سوف يشكلون تحدي للنظام الجديد في مساره، ويشكلون تحديا لعملية التحول الديمقراطي إذا لم يعرفوا موقعهم السياسي من النظام الجديد. فكان على قوى الحرية والتغيير أن تدرك هذا الواقع وتتعامل معه وفقا للمعطيات التي تؤدي إلي نجاح عملية التحول الديمقراطي. الغريب في الأمر أن ياسر عرمان وعمر الدقير كانت لهما رؤية موضوعية، أن تكسب قطاع عريض من الإسلاميين لمناصرة عملية التحول الديمقراطي دون مشاركتهم في الفترة الانتقالية، ويمكن أن يشاركوا في أي حوار لصناعة الدستور وقانون الانتخابات، واعمال مفوضة الانتخابات. وهذا لا يمنع من تفكيك دولة الحزب الواحد لصالح التعددية السياسية، ومحاسبة كل الذين أجرموا أو ارتكابوا فسادا، لكن للأسف أن الكل تخوف من شعارات الشيوعيين بعدم الاقدام على الخطوة، باعتبارها ضد شعارات الثورة، وهذا خطأ، لآن شعارات الثورة تركزت في (حرية سلام وعدالة، وقيام الدولة المدنية الديمقراطية) ويتبني التكتيك على هاذين الشعارين فقط، ولكن استجابت قيادات الحرية والتغيير لشعارات الشيوعيين الممرحلة، فوحدة بين اطياف كل الإسلاميين وعناصر المؤتمر الوطني، وحزب مثل الاتحادي الديمقراطي الأصل الذي يمتلك قاعدة عريض من المواليين. ثم عاد الحزب الشيوعي وأعلن الحرب على حكومة حمدوك والحرية المركزي، بل عمل على خلق جفوة بينهم ولجان المقاومة، لكي يكون وحده هو الممثل البطل في المسرح السياسي. هل كانت قوى الحرية والتغيير غير مدركة لإستراتيجية الزملاء؟.
عندما تكون فكرة (السلطة) هي المسيطرة على الجميع، تصبح عملية الصراع في أعلى درجاتها، وكل قوى لا تستطيع أن تعلم بكل تفاصيل مخططات القوى الأخرى، ولا بالأدوات التي يمكن ان تستخدمها. ولكن فكرة (الديمقراطية) تجعل صاحبها لديه الاستعداد أن يفتح الجسور مع كل القوى الأخرى لدعم الفكرة، ولا يتخوف من طرحها بقوة في الشارع السياسي، و معلوم أن التحول الديمقراطي لا يتم إلا بالشروط التي تعزز ثقافته في المجتمع. فالديمقراطية نظام يؤسس بأكبر قاعدة أجتماعية مناصرة له، وحتى الذين يعارضون بداية مسيرتها يمكن تحيدهم مؤقتا حتى يصلوا لقناعة بضرورة الديمقراطية. فالصراع الدائر بين أطرف القوى التي شاركت في الثورة، ومحاولت كل مجموعة أن تدعي هي الأحق وحدها لكي تتسلم السلطة من العسكر، هي التي فتحت طريق عودة عناصر النظام السابق للساحة، إذا كانت بمعاونة العسكر، أو الاستفادة من صراعات الأخرين مع بعضهم البعض.
أن عودة عناصر المؤتمر الوطني للساحة السياسية أصبحت واقعا، وهي سوف تغير في قوانين اللعبة على المسرح السياسي، وهي مجموعة عندها قدرة على الحركة والإمكانيات التي تساعدها على ذلك، إذا كان ذالك برعاية العسكر، أو قدرتهم الذاتية على الحركة، وهذا يشكل تحدي للقوى الأخرى. يصبح السؤال هل تكتف بالشكوى للمجتمع الدولي والإقليمي كما فعل ياسر عرمان، أم لها تصور أخر. هناك البعض الذي يعتقد لابد من وحدة قوى الثورة، وتصعيد الثورة الشعبية ضد الانقلاب. أن تصعيد الشارع وحده لا يستطيع اسقاط الانقلاب إلا إذا كان مدعوما بإضراب سياسي يشارك فيه كل الشعب السوداني، أو قوى مسلحة أخرى تنحاز للشارع. يصبح السؤال ما هو العمل من أجل نجاح عملية التحول الديمقراطي في ظل هذه المتغييرات الجديدة؟ و هل عملية التحول الديمقراطي هي بالفعل تشكل الأولوية دون سواها؟.
أن الإجابة على السؤالين؛ مرتبطة بقدرة القوى السياسية لقراءة الواقع قرأة صحيحة، ومعرفة الميكانيزمات المحركة لهذا الواقع، وقدرتها على التأثير سلبا أو إجابا. وحتى الآن ماتزال الكرة في ملعب قوى الحرية والتغيير (المركزي) ومدى استطاعتها لتقديم مشروع سياسي، أو ميثاق تطرحه بقوة على الكل وتدير حوله حوارا مفتوحا. وتقلص مشروعها ذو الثلاث مراحل إلي مرحلتين فقط، المرحلة الأولي الجلوس مع كل القوى المؤيدة لعملية التحول الديمقراطي، والوصول معها لتوافق حول مسودة دستور تحكم الفترة الانتقالية، والتوافق على حكومة من كفاءات سودانية مشهود لها بالنزاهة والشفافية وحسن الإدارة والوعي السياسي وهي التي تستلم السلطة من العسكر، ثم تبدأ في انجاز الفترة الانتقالية، و تشكيل الأجهزة العدلية والمفوضيات وبقية المؤسسات المطلوبة، وتشكيل مجلس تشريعي لا يتعدى 150 شخص، تخصص 40% من مقاعده للجان المقاومة بمشاركة كل الأقاليم، و 20% للمرأة من كل الأقاليم و 40% للأحزاب والحركات والقوى المدنية، وأن لا تتعدى الفترة الانتقالية سنتين، وتكون مفوضية للدستور تدعو لحوار من أجل صناعة الدستور تتفق عليه القوى السياسية دون أي قصاء، ويقدم الدستور للحكومة المنتخبة ويجاز في برلمانها ومن ثم يقدم إلي أستفتاء شعبي. فهل قوى الحرية المركزي تستطيع أن تقدم في أجندتها الوطن والتحول الديمقراطي على أجندة السلطة؟ هو السؤال الذي يجب أن تجاوب عليه. وإذا تعتقد أنها متمسكة بمراحلها الثلاث سوف تخسر معركتها السياسية بسبب المتغيرات في الساحة السياسية. ونسأل الله التوفيق وحسن البصيرة.