مصطفى ابوالعزائم يكتب: نحن .. ومصر !

181

هل نجرؤ على مناقشة قضية العلاقات السودانية المصرية بذات الجرأة التي تُناقش بها بقية القضايا الخاصة بعلاقات بلادنا الخارجية، سواء على مستوى الجوار أو الإقليم؟

الموضوع حساس وشائك وهناك ألغام تنتشر في حقول عديدة نزرع بعضها نحن ، ويزرع بعضها أشقاؤنا في مصر ، وقد تردت العلاقات بين بلدينا (التوأم) كثيراً في عهد حكم (الإنقاذ) رغم التأييد الذي وجده النظام الجديد في السودان من قبل القاهرة بعد الإعلان عن نفسه في الثلاثين من يونيو 1989م.

عملية التمويه السّياسي التي قام بها الإنقلابيون في الثلاثين من يونيو 1989م ، جعلت كبير الدبلوماسيين المصريين في الخرطوم يبعث ببرقية إلى رئاسة وزارته في القاهرة ، يقول فيها ما معناه (الجماعة دول بتوعنا)، لكن الحقائق تكشّفت بعد وقت وجيز ، وليس أشد خصومة وعداء للأجهزة الحاكمة في مصر غير كل من له صلة بتنظيم الإخوان المسلمين الذي تأسس على يد الأستاذ “حسن أحمد عبد الرحمن محمد البنا الساعاتي” الذي اشتهر بين أعضاء حركة الإخوان المسلمين باسم الإمام “حسن البنا” وكان تأسيس الحركة في العام 1928م ، كمنظمة سياسية إسلامية تهدف إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في الحياة العامة ضمن السلوك اليومي، استناداً على مقولته (إن الإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية ومصحف وسيف) وهو ما شكّل أساساً لرفض السلطات المصرية الرسمية للفكرة ومحاربتها، إلى أن تم إغتيال مؤسس الحركة في الثاني عشر من (فبراير) من العام 1949م، وهو في شرخ شبابه ، إذ لم يتجاوز الثانية والأربعين من عمره آنذاك .

النظام الذي أعلن عن نفسه عام 1989م ، بإسم (الإنقاذ) كان إسلامياً نعم.. وداعياً لتطبيق الشريعة الإسلامية ، لكنه ظل على الدوام ينفي تبعيته لتنظيم الأخوان المسلمين في مصر أو لأي تنظيم خارجي آخر ، وقد خرج السُّودانيّون من دائرة التبعية للتنظيم المصري بعد إبعاد مؤسس التنظيم أو الحركة الإسلامية في السُّودان، الراحل الأستاذ “علي طالب الله” الذي كان يجمع في ذات الوقت بين رئاسته للتنظيم الجديد، وبين عضوية الحزب الوطني الإتحادي.. وهو الحزب القريب إلى مصر والذي كان يتبنّى شعار وحدة وادي النيل، ولم يكن غريباً للباحث في تاريخ السودان السياسي الحديث أن يكون الحزب الوطني الإتحادي – الإتحادي الديمقراطي لاحقاً- هو الحزب الذي شكل رصيداً حقيقياً للحركة الإسلامية، وللحزب الشيوعي السوداني ، وقد جاء مؤسسو هذه التيارات بأفكارهم ومعتقداتهم من مصر الشقيقة، حيث أدّى الشّيخ الأستاذ “صادق عبد الله عبد الماجد – رحمه الله – ”البيعة الشّيخ “حسن البنا” عندما كان الأول يدرس في جامعة فؤاد الأول ، وأدى معه البيعة عمّي شقيق والدي الأستاذ “جبر عبد الرحمن حسن عبد الرحمن” المحامي الذي كان زميلاً له في المرحلتين الثانوية والجامعية بمدرسة حلوان الثانوية ، ثم جامعة فؤاد الأول ، لكن الأستاذ “جبر عبد الرحمن” – رحمه الله – نكص عن تلك البيعة في ذات الليلة ، ولما سألته عن السبب قال لي – رحمه الله – “الراجل ده ساحر.. في لحظة لقيت نفسي ببايعو.. لكن لمن رجعت للسكن زال أثر السحر”.

أما عن حركة اليسار ونشأة الحزب الشيوعي السوداني ، فقد كان أحد الذين أسهموا في تأسيس هذا الحزب وإنتقى له الكوادر الذكية ، الواعية والمتعلمة ، هو “هنري كورييل” الذي تتلمذ على يديه الراحل الأستاذ “عبد الخالق محجوب” سكرتير عام الحزب الشيوعي السوداني الذي أعدمه نظام الرئيس الراحل “جعفر محمد نميري” عقب فشل إنقلاب الرائد “هاشم العطا” في 19 يوليو 1971م ، على رأس مجموعة من قيادات الحزب الشيوعي وكوادره الفاعلة.
يقول الدكتور “حسن كفافي” في كتابه (الأسطورة والوجه الآخر) عن “هنري كورييل” إنه ذلك الشاب الوسيم ابن المليونير اليهودي المصري “دانيال نسيم كورييل” صاحب بنك الرهونات في شارع الشواربي وسط القاهرة ، والذي ظهر فجأة في سماء المجتمع المصري الراقي نهاية الثلث الأول من القرن العشرين ، بسهراته الحالمة التي كانت تضم صفوة مختارة من الشباب النابه ، وكان يبشر بالفكر الماركسي ، ويشكل الخلايا الشيوعية في سرية تامة ، خلايا للعمال ، خلايا للطلبة وأخرى للموظفين وغيرها للضباط ، وخلايا للنوبيين وخلايا للسُّودانيّين ، وقد صار زعيماً لأكثر الحركات الشيوعية المصرية نفوذاً والتي كان يشار إليها بـ (ح .م) إختصاراً لإسم الحركة المصرية ، ومن بعدها (حدتو) أو الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني ، بعد دمج الحركات الشيوعية وتوحيدها في مصر عام 1947م .

الأستاذ “أحمد سليمان” المحامي – رحمه الله – وهو أحد القيادات الشيوعية السودانية سابقاً ، والإسلامية لاحقاً ، قبل وفاته أشار إلى “ هنري كورييل” في كتابه (من سجل الحركة الشيوعية العالمية وإنعكاساتها في السُّودان)، وكتب أن الكثيرين كانوا يجهلون خطورة “هنري كورييل” ككادر ثوري دولي.

قال لي الشيخ الأستاذ “أحمد عبد الرحمن محمد” في سلسلة حلقات توثيقية بثتها إذاعة (بلادي) جاءت تحت مسمى (شخصيات من بلادي) ، قال إن حركة الإخوان المسلمين في بداياتها بالسودان كانت محاربة من قبل الإنجليز ومن قبل الحكومة السودانية ، بينما كان الأساتذة الإنجليز والمصريون في المدارس الثانوية يرعون حركة اليسار الشيوعي سراً .

نخلص في هذه الجزئية إلى أن تنظيم الإخوان الذي تطوّر لاحقاً إلى حركة إسلامية سودانية بعيدة عن أفكار الإمام “حسن البنا” وبعيداً عن سطوة المرشد العام ، إنما جاءت من مصر ، وكذلك الفكرة الشيوعية ، وكل منهما كان له أثره في تاريخ العلاقات بين البلدين .
Email : sagraljidyan@gmail.com

Comments are closed.