حكاية من حلتنا يكتبها: آدم تبن

68

لسنوات طويلة جفت فيها عرى التواصل الإجتماعى بين العديد من الأسر السودانية خاصة الذين بعض الأسر التى سكنت فى عاصمة البلاد الخرطوم حيث إنقطعت صلاتهم الإجتماعية بالمناطق التى أتوا منها أو كما نسميه فى السودان (مسقط الرأس) ويعنى مكان المولد والنشأة الأولى ، وبها ذكريات الطفولة العالقة بالأذهان التى لا تستطيع سنوات العمر التى جاءت بعدها أن تزيلها من الذاكرة مهما بلغت المسؤوليات والمشغلويات سواءا فى محيط الأسرة أو العمل أو السكن ، فهى باقية وتجددها الإحداث التى بالطبع لا تتوقف مهما ساءت الظروف أو تحسنت ، فهى مطبوعة ومحفوظة ولا تحتاج الى عناء وترتيب ذهنى لتعود مكتملة وكأنها حدثت فى لحظة إستدعاؤها ، ويالها من نعمة كبيرة وهبها الله تعالى وأودعها فى عقول الصغار حيث تتميز عقولهم بالحفظ والتذكر فى سنوات عمرهم الأولى وكما قال الشاعر (ينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه) ، فكل صغير يحفظ ويعى ويتذكر ما تعلمه وعلموه له فى البيت أو المسيد أو المدرسة وهو فى سنوات صغره ، وممكن أن نجرب ذلك بأن نستدعى ذاكرتنا وما تحتفظ به فى صغرها فسنجد ما يزهلنا من قوة الحفظ والإسترجاع والتذكر ، صحيح قد لا تكون الذاكرة مكتملة الحفظ إلا أنها بالتأكيد ستسترجع بعضا منها.

وتلك السنوات التى قد مرت على أغلب الذين نشأوا فى مواطنهم الأصلية تحمل كل ماهو جميل ومختلف فقد تفيض الذكريات بشقاوة الطفولة ورفقاء الدرب من الأصحاب الذين فرقتهم السبل وباعدت بينهم فى الأمكنة ، وحرب الخامس عشر من أبريل الماضى لها باع كبير من بعد مشيئة الله تعالى بأن يعود البعض لمناطقهم التى غابوا عنها زمنا طويلا ، تغيرت فيهاخارطتها الإجتماعية والإقتصادية وهناك مياه كثيرة جرت تحت جسرها ولم تعد كما كانت ، وتعود الذكريات لسنوات الدراسة الأولى وعمليات زراعة الأرض ورعى الثروة الحيوانية أو العمل فى المتاجر الصغيرة والجزارات والأفران واللوارى، وكل مهنة من هذه المهن لها مايميزها عن غيرها ولها أسرارها التى تتناسب مع ممتهنيها الذين أنفنوا زهرة شبابهم فيها ، وقدموا خلالها عصارة تجربتهم العملية التى تستحق التعرف عليها ، وهى تجارب أرى أن أغلبها ناجح ، لأن من إمتهنها إستطاع تدبير معاش أسرته بطريقة عبقرية وقادها فى أحلك الظروف خاصة تلك السنين العجاف التى تعترى سنوات حياتهم الطويلة ، ولمجتمعه الذى يعيش فيه قضايا يتفاعل معها ويتأثر بها على مر الأيام والسنين .

وتعود بذاكرة حكايه من حلتنا مشقة التسفار بين العاصمة الخرطوم والمدن والقرى والأرياف البعيدة حيث لم تكن الطرق المسفلته تشق صحارى ووديان وجبال بلادنا السودان وتربط مدنها وقراها وبواديها بالعاصمة بسهولة ويسر ، حيث أصبح السفر راحة ومتعة وسياحة وتواصل إجتماعى ، بدلا عن العذاب والإرهاق والتعب الذى كان رفيقا للمسافرين ، وحرب الخامس عشر من أبريل أعادت ذكريات تلك السنوات الصعبة ، ووقتها كان على المسافر أن يفارق مكان سكنه متوجها الى أهله دون أن يترك أثرا خلفه أو أمامه ، فهو ذاهب الى المجهول قد يصل إليهم أو لايصل فلا شبكة إتصالات تربطهم ببعض ، ولا طريقا ممهدا يقرب المسافات البعيدة ، فيظل المسافر بعيدا عن الجهة التى تحرك منها والجهة التى يقصدها لوقت يطول ويقصر لا أحد يعرف عنه شيئا الى أن يصل إلى مقصده ، مفاجئا الجميع فتنطلق الأصوات صائحة بإسمه كمثال فلان جاء ويرددها الأطفال بشغف طفولى يمشون خلفه حاملين معه الشنطة والعفش وتتعالى أصواتهم وهو فى فرح غامر بعودته الى الديار سالما.

وتكون لحظات الوصول ذات طابع إجتماعى مميز ويالها من لحظات غالية فى حياته، يقالده الجميع منهم من يبكى ومنهم يبتسم فى وجهه حامدا له السلامة بالوصول ، والناس يتقاطرون من جميع الاتجاهات للسلام عليه وتهنئته بالعودة ، والجلوس معه لمعرفة أخباره وأخبار من تركهم خلفه ، وتبرع الأسرة فى تقديم ضيافتها بتقديم الماء والعصائر البلديه وكان الناس يسمونها (الشربات) ومعها البلح والحلاوة ويسمونها كرامة الوصول ويتناولها الجميع بحب وفرح وسرور عميق ،ويتفرقون بعدها ليتركوا المسافر ليأخذ قسطا من الراحة، يستعيد بعدها نشاطه ليبدأ فى إستقبال الأهل وزيارتهم فى منازلهم وتفقد أحوالهم وأداء الواجبات الإجتماعية التى لم يكن موجودا وقت حدوثها مثل الوفيات والزواج وزيارة المرضى ، ويكون بذلك أدى واجبه الإجتماعى بامتياز الى أن يصبح عضوا جديدا فى مجتمعه الذى إفتقده لفترة طويلة ، وعندها تعود تلك الذكريات الجميلة فى ثوب قشيب.

Comments are closed.