الزين صالح يكتب :- السودان و صراع الثقافتين
بقلم :زين العابدين صالح عبد الرحمن
سأل محمد إبو القاسم حاج حمد في كتابه “السودان المأزق التاريخي و أفاق المستقبل” عن الصراع السياسي و دور أسماعيل الأزهري فيه بالقول ( لماذا نظر الأزهري إلي الصراع بين حزبه و بين الآخرين في حدود الصراع السياسي المجرد على كراسي ” السلطة” فتحول هو الآخر إلي شيخ لطائفة المثقفين.. يبارك هذا بالتعيين و يحرم ذلك بالطرد من خلال عباراته ” إلي من يهمه الأمر سلام”) هنا تبرز رؤيتين الأولى – كان لابد أن يكتب حاج حمد مثل هذا التساؤل عن الأزهري لأن حمد كان يقف في الضفة الأخرى للاتحاديين الذين انقسموا و كونوا حزب الشعب الديمقراطية. و الثاني أن حمد كان يتوقع أن الأزهري يجب عليه أن يخرج من صراع السلطة، ثم يراهن على مستقبل الديمقراطية، بأن يجعل الحوار هو الذي يحل المشاكل و الأزمات التي يواجهها الحزب دون الركون لقضية الإبعاد و الفصل. بمعنى أن الديمقراطية تحل مشاكلها كما قال محمد احمد محجوب بمزيد من الديمقراطية، باعتبار أن أهم مرحلة في مراحل البناء هو الأساس الذي يشيد عليه البناء.
كان يمكن أن يكون الصراع داخل مواعين الديمقراطية إذا كانت داخل المؤسسة الحزبية، أو في الاتساع الواسع للوطن مع القوى السياسية الأخرى. رغم أن الانقلابات العسكرية لم تجعل هناك فترة زمنية كافية تؤسس عليها الديمقراطية. بعد ثورة 21 أكتوبر 1964م، كان المتوقع أن القوى السياسية تكون قد تعلمت الدروس من تجربة حكم عبود. و لكن التجربة خلقت واقعا جديدا في العمل السياسي، حيث أثر سلبا على السياسة في السودان حتى اليوم. حيث برزت الحركة الإسلامية كقوى جديدة لها تأثيرها في السياسة، و بدأ الصراع بين اليمين و اليسار يخرج من دائرة الصراع الثقافي الفكري إلي صراع صفري كل يحاول أن يجعل الأخر خارج المسرح السياسي. و استغل الاسلاميون ما حدث في المعهد العلمي. بأن أحد عناصر الحزب الشيوعي أتهم السيدة عائشة إتهاما خادشا. و لكن الشيوعيون نفوا أن يكون هذا الشخص عضوا في الحزب الشيوعي، أنما هي مسرحية من تأليف الإسلاميين. هذه الحادثة أثارت العامة و تم بموجبها حل الحزب الشيوعي و طرد نوابه من البرلمان في 1965م، هذا الصراع الصفري لإبعاد الشيوعيين فتح منافذ الاستقطاب داخل القوات المسلحة و تشكيل خلايا داخلها أدت إلي انقلاب نميري 1969م من قبل الشيوعيين و القوميين العرب، ثم انقلاب أخرى للشيوعيون 1971م ثم انقلاب الجبهة الإسلامية 1989م و عدد من الانقلابات الفاشلة منها انقلاب 28 رمضان الذي قاده البعثيون. الأمر الذي يؤكد الاختراق الذي حدث داخل القوات المسلحة من قبل السياسيين.
أن الصراع بين الشيوعيين و الإسلاميين الذي أدى لحل الحزب الشيوعي في 1965م انتج ثقافة سياسية جديدة في المجتمع تقوم على الصراع الصفري، و أصبح الثنان يتحكمان في إنتاج هذه الثقافة، و يستخدمان كل أدواتهم الأعلامية و الصحافة و التجمعات المهنية و منظمات المجتمع المدني و حتى الصراع داخل الحركة الطلابية، و جميعها يساعد في إنتاج و تجديد هذه الثقافة. المسألة لم تعد في دائرة الحزبين و عضويتيهما، بل أنتقلت حتى إلي عضوية الأحزاب الأخرى، و التي كان يجب أن يكون لها تفكيرا مغايرا، و أخص هنا الحزبين التقليديين ” الاتحادي و الأمة” و أصبح الخلاف في الرأي و الأفكار يوقع صاحبة في الاتهام للانحياز لجانب من الجانبين، هذه الثقافة المتحكمة في المجتمع و خاصة وسط المثقفين لا تستطيع أن تقود البلاد إلي الديمقراطية، لأنها ثقافة تتناقض مع الثقافة الديمقراطية تماما، هي ثقافة تقود للنزاعات و الحروب و تسيد أدوات العنف.
أن غياب قوى الوسط التي تستطيع أن تتصدى لمثل هذه الثقافات القاتلة، و تجعل من نفسها حائط للصد و الرفض. و غيابها هو الذي مكن الثقافة الصفرية و اعاطها مساحة للحركة و النمو و السيادة. أن القوى الساعية للبناء الديمقراطية لا تحتاج أن تستلف مصطلحاتها و ثقافتها من القوى التي تنتج الثقافة الصفرية، بل تعمل جادة على إنتاج الثقافة الديمقراطية، التي تؤسس على الحوار و النقد و إنتاج الأفكار المطلوبة لعملية التغيير، أن الثقافة التي تم إنتاجها بعد ثورة أكتوبر و أدت لحل الحزب الشيوعي و الانقلابات العسكرية هي ذات الثقافة التي أفشلت الديمقراطية بعد ثورة إبريل 1985م و أيضا أفشلت انجاز مهام ثورة ديسمبر 2018م، لأن القيادات التي جاءت للسلطة بعد أغسطس 2019م كان عليها أن تستفيد من تجارب الماضي، و تحاول أن تخرج من دائرة الثقافتين المتحكمتان الآن. القوتان المنتجتان للثقافة الصفرية فشلتا في الحكم و في نقد ممارستيهما و التوقف عن إنتاج هذه الثقافة العدمية. كان على القوى السياسية أن تطرح على نفسها السؤال كيف نستطيع أن نتجاوز الثقافة العدمية إلي إنتاج ثقافة جديدة و امتلاك أدوات العمل السياسي التي تتلاءم مع الواقع الجديد؟
البلاد في حاجة إلي قوى الوسط المؤمنة أن الديمقراطية تحتاج إلي عقول جديدة غير مختزنة بتلك الثقافة العدمية، إلي أفكار جديدة تبنى رؤيتها المخالفة للتجارب التاريخية الفاشلة، تؤسس على ثقافة ديمقراطية، تبدأ معاركها من داخل مؤسساتها الحزبية و تحدث فيها تغيرات تساعدها على إنتاج ثقافة داعمة للديمقراطية. أن طريق الديمقراطية ليس طريقا سهلا بل هو طريق محفوف بالمخاطر و التحديات، لآن هناك قوى لا ترغب في التغيير إذا كان الواقع القائم يؤمن لها مصالحها، و هذه القوى ليس فقط أن تكون في الدولة و متحكمة في مفاصلها، أو في حزب واحد، بل هي قوى محافظة موزعة بين الكيانات تخاف من التغيير، لأنها لا تضمن نتائجه. و التغيير لا يتأتى بالشعارات و الهتاف، بل بالحكمة و القدرة على إدارة الأزمة بوعي، و ضخ الأفكار المقنعة. و لكن إذا استمر الكل يتمسك بثقافة الصراع الصفري…! لن يحدث تغيير في المجتمع.. لأن الكل سوف يكونوا مستوعبين في “شكلة” تمنعهم من التفكير الجيد، و الخطاب المنطقي المتماشي مع قيم و شروط الديمقراطية. و نسأل الله حسن البصيرة.
Comments are closed.