كامل عبدالله يكتب: نبوءة المايا!
بقلم: كامل عبدالله كامل
نداءٌ يُسمع بوضوح عبر مكبرات الصوت الذي ينبعث من كل مكان، ويغطي كل مساحة مطار قواتيمالا الدولي.
كانت “إيدّي” الموظفة في مصلحة الآثار وطالبة الماجستير في جامعة قواتيمالا تفج الجموع لتكون في الأمام لإستقبال الباحث الأمريكي وطالب الدكتوراة في جامعة شيكاغو ” كلاوس كارتر”.
ما أن حاولت أن تكبت جماح أنفاسها المتلاهثة نسبة لوصولها المتأخر نسبياً، حتي أطلّ من بوابة الخروج ” كلاوس كارتر”، لم تكن تعرفه حتى اللحظة التي توقف فيها أمامها.
فقد كانت تحمل لوحة مكتوب عليها بوضوح :”السيد / كلاوس كارتر”
_ مرحباً، أنا كلاوس كارتر، مبتعث جامعة شيكاغو.
_ أهلاً بك يا سيد كلاوس كارتر، أنا إيدّي مارتينيز مندوبة وزارة السياحة والآثار وطالبة الماجستير في جامعة قواتيمالا، سعيدة أنا بوجودك في بلادي، تفضل يا سيدي فباب الخروج من هذه الناحية.
شكرا، حياها بعبارات مقتضبة، لم تحسن معها حتى إبتسامات “إيدّي” التي كانت توزعها بكرم ظاهر في فك شفرة تقطيبة جبينه التي كانت كممرات وسط سلاسل جبلية وعرة.
خرجا حتى مرآب السيارات الذي لم يكن يبعد كثيراً عن باب الخروج، وصلا عند السيارة التي ستقودها إيدّي إلي الفندق الذي سيرتاح فيه كلاوس كارتر حتى صباح الغد.
لم يكن يبعد عن المطار سوي عشر دقائق، مرّت جميعها خالية الا من عبارات المجاملة اللطيفة، أو ربما إبتسامة رتيبة يتصنعها “كلاوس”، لم تكن ترضى “إيدّي” بالطبع لكنها آثرت الصمت الضروري في مثل هكذا مواقف.
كان الوصول للفندق المقصود في ذات المدة الزمنية المقدرة، وبعد أن إطمأنت لكل الترتيب الذي أعدته مع إدارة الفندق وأن كلاوس أمام باب غرفته تماماً.
مدّت إيدّي إليه ورقة مطوية وأردفت : في الورقة تجد كل البرنامج المعد وكما أرسل إليك بالبريد الإلكتروني يا سيد كلاوس.
لا تتردد يا سيدي في الإتصال برقمي المكتوب على ذات الورقة، ستسعدني خدمتك في أي وقت.
_ شكراً، شكراً لك يا سيدتي .
_ طابت ليلتك يا سيدي، لنلتقي غداً.
_ أجل أجل، سأكون في الإنتظار.
إلتفت كلاوس مواجها باب الغرفة، بينما كانت خطوات إيدّي تتأهب للمغادرة، لكن صوت كلاوس من خلفها إستدعي إستدارةً سريعةً منها :
_ هلا ذكرتِ لي إسمك ثانية؟
_ ” إيدّي” يا سيد كلاوس، إيدّي مارتينيز.
قالتها وملامح ضيق بدأت تتكوم على وجهها على إستحياء منها، لكنها لم تمنحها المزيد من الوقت.
غادرت الفندق على عجل، يبدوا أن الايام القادمة ستشهد جهداً بدنياً مضاعفاً، سيزيده رتابة ومللاً عبوس كلاوس الدائم.
هكذا تمتمت إيدّي وانطلقت تسابق ما تبقى من زمن كي تشرق شمس الغد.
عند الثامنة والنصف صباحاً، وكما الموعد المدون والمعد سلفاً كانت تقف إيدّي بالعربة المخصصة لها من مصلحة الآثار لتكون في صحبة السيد كلاوس.
سيكونا في إتجاه جزيرة “يوكوتا” التي تبعد ربما أربعمائة كيلو متراً إلى الشمال من العاصمة، حيث تعد من المواطن الأكيدة لحضارة المايا.
كان كلاوس كارتر قد إنتهى لتوه من تناول إفطاره الصباحي عندما كانت تقف إيدّي إلي جانب الطاولة التي يجلس عليها.
سرعان ما بادرته بتحية الصباح كما العرف : طاب صباحك سيد كلاوس، أتمنى أن تكون قضيت ليلة سعيدة، ليلتك الأولى في قواتيمالا.
هرش كلاوس فوق صدغه الأيمن والذي كانت تنمو عليه ما يشبه البثور، لم تكن بثوراً لكنها وكما يبدوا لسعة ما لحشرة أقلقت نومه المعتاد.
أجابها بعد مرور ثوانٍ قليلة : لا بأس، كانت ليلة حافلة بكل شئ، صوت صرصور الليل، ولسعات البعوض كما يبدو، لكن لا يهم.
_ المعذرة يا سيد كلاوس كنت آمل أن تكون ليلتك أفضل من ذلك، أنا في غاية الأسف، لكني سأبذل وسعي لتكون إقامتك أفضل.
_ لا عليك، لا عليك، ربما عملنا في مجال التنقيب عن الآثار دوماً ما يجعلنا في مثل هكذا مواقف، هل سنتحرك الآن؟.
_ بالطبع، كل شئ معد، الخرائط والمعدات، وكل ما أمرت به.
_ إذاً هيا لننطلق.
نهض كلاوس من مكانه ذاك تتقدمه إيدي، وكانت كل العيون تتبعها، النزلاء الموجودون في باحة الإستقبال، وحتى العاملين بالفندق، حتي أنها كانت تسمع بعض عبارات الغزل بوضوح، لكنها ما كانت تهتم.
ركبا العربة المعدة والمجهرة لمثل هكذا رحلة علمية، تسبر أغوار حضارة المايا التي تمثل إلى اليوم لغزاً كبيراً.
كانت العربة تشق الطرقات المتعرجة حيناً، والشديدة الوعورة في أحايين آخر، تتخللها المطبات الطبيعية والإصطناعية أيضاً، وكان الصمت قاسماً مشتركاً بينهما.
حتي أتت تلك السانحة التي باغتت فيها إيدّي صمت كلاوس الطويل والمرهق لفتاة في عمرها الغض، ذلك العمر الذي يحتفي بكل ما من شأنه إثارة الحيرة :
_ لا شك أن نبوءة المايا ستتحقق يا سيد كلاوس.
رد عليها بإقتضاب حتى دون أن يرفع عينه عن الخريطة التي كان يطالعها :
_ أيُ نبوءة؟
_ نهاية العالم في تاريخ 2012/12/12.
أطلق حينها كلاوس ضحكة جعلت جسده ينتفض كهزات ارتدادية لزلزال كبير، تردد صداها حتى ظنت إيدّي أنه لن يتوقف.
شاركته بإبتسامة ودودة جعلتها مدخلاً للمزيد من الإلفة، أغلق كلاوس الخريطة ووضعها مطوية أمامه في العربة.
مال في جلسته نحو إيدّي، صدم كلاوس جميع توقعاتها وقال بحماس ظاهر ومشوب بقدر من السخرية:
_ دعكِ من هذه الترهات، نحن في الألفية الثالثة، حيث العلم هو الإله الأعظم، والدلائل والبراهين هي آياته الكبرى، سكت قليلاً ثم أضاف بضحكة طاعنة في التندر: أعيدي على مسامعي تلك النبوة؟.
ودخل في فاصل آخر من الضحك، لم يقطعه كما يبدوا سوي نقطة تفتيش هي الأولى في الطريق، تجاوزاها بعد أن أبرزت إيدي كل المستندات الضرورية واللازمة والتي تحمل أختام الدولة وتصريحها.
بدأ بعدها الطريق يميل إلى الدخول في غابات متشابكة، وأشجار عالية وأنواع مختلفة من الطيور، قاست خلالها العربة من الطريق الذي كان يشبه منطقة المستنقعات.
وصلا أخيراً لضفاف بحيرة “شيشانكانب”، كانت أحدي المراكب معدة لهما للعبور إلى جزيرة “يوكوتا” التي يقصدانها.
وبعد أن أُنزلت المعدات إلى المركب واتخذ كل منهما مكانه المعد، وبعد أن ناولت إيدّي كلاوس كوباً من عصير “الآتشي” المثلج والذي تشتهر به المنطقة.
أضافت : أخبرتني جدتي يوماً ما يا سيد كلاوس أن أجدادنا من المايا سكنوا فعلاً هذه الأرض في جزيرة “يوكوتا”.
كانوا يسكنون قريباً من الكهوف المائية، أربعة عشر كهفاً متصلاً، مليئة بالمعابد الصخرية كما تعرف، وتماثيل وكهنة وأضاحي بشرية تدفن مع الميت لخدمته، كان عالمهم روحانياً صرفاً.
_ أتفق معك في أشياء يا إيدّي واختلف في بعضها، بالنسبة لي وكباحث ما لم أجد الدليل على نظرية ما يبقى علىّ من الصعب إثباتها.
دائماً ما تحفل أساطير الشعوب بالكثير من مثل هذه الترهات، إنها فقط في عقول هذه الشعوب، يتوارثونها جيلاً بعد جيل.
_ لديكم عالمكم المادي يا سيدي فحضارتكم الأمريكية مادية بحتة، ولدينا نحن كذلك أرواح أجدادنا، إنها هي التي تحرسنا على الدوام.
_ نحن نؤمن بالعلم فقط ولا شئ غيره، هذا سبيلنا وطريقنا.
_ أنا أثق في حديث جدتي يا سيد كلاوس أثق في كل ما أخبرتني به عن إتصال المايا بعالم الأرواح، أثق حتى في تلك النبوءة التي تخبر بنهاية العالم في
.2012/12/12
عاد كلاوس إلى إطلاق ضحكته الفاجرة تلك، لم يسكته سوي صوت المحرك الذي قد توقف عن إصدار جلبته تلك إيذاناً بالوصول.
أُنزلت المعدات، ونصبت خيمة على شاطئ الجزيرة، حوت بداخلها ما يحتاجانه في رحلتهما الأثرية، والتي يبدوا أنها ستبدأ في صباح الغد، إذ لم يتبقى لليل إلى إيماءة الشمس بالرحيل.
كان الشفق الأحمر حينها يحاوط خصرها ويضغط بالمزيد حتى إعتصر كل شعاعها فذابت في المغيب.
كان الليل مساحة كافية لأحلام كلاوس بنيل الدكتوراة بكشف قد يسهم في فك طلاسم حضارة المايا الغائبة.
وإيدّي تسخر من هذا الأشقر العابث الذي يسفّه من حكايا جدتها، رددت في نفسها قصيدة حفظتها من جدتها.
نحن أسياد هذا العالم
يفنى الجميع ويبقى المايا
إننا الأقوياء بلا شك
تحمينا الكهوف الحصينة
وتحرسنا المياه العميقة
نظل أوفياء لأرواح أسلافنا
هي سر سطوتنا ونبوغ أمتنا.
ما أن إنتهت من ترديد القصيدة بهمس حتى إلتفتت ناحية كلاوس والذي كان قد بدأ يذوب في نوم عميق.
أتى الصباح على عادته كل صباح، الطيور تأخذ مكانها الطبيعي أعلى الأغصان، وتملأ الفضاء بصفيرها، أشعة الشمس تتسلل من بين أوراق الأشجار ترسم خطوطاً رقيقة على صفحة الظلال الكثيف.
حينها فقط بدأ كلاوس وإيدّي يطردان النوم عن أجفانهما، كانت القهوة التي سعت إليهما من يد مرافق لخدمتهما في الجزيرة، كأفضل ما يستهلان به يومهما.
تحركا بعدها إلى داخل الجزيرة التي كانت تزيد كثافة أشجارها، وتقل أشعة الشمس المتسللة من خلف الأغصان المتشابكة.
إستعانا بالكشافات الضوئية المثبتة أعلى الرأس من على خوذة، كانت الظلام يزيد، والهدوء يخيف حقاً، وصوت سريان المياه داخل كهف قريب يسمع بوضوح.
يبدوان قريباً من إحداها، سارا بحرص نحو مصدر الصوت، كانت إيدّي تسير خلف كلاوس مباشرة عندما أصدرت صرخة إنتبه لها كلاوس في اللحظة الأخيرة أن تهوى إلى حفرة سحيقة، أو كهف مهجور، أمسك بها من ذراعها وجذبها ناحيته حتى إلتصقت به.
كانت عيناها تتطلع عميقاً في عينيه، كانتا تلمعان بوميض غامض، طلب منها كلاوس أن تتمسك به.
سرت فيها فرحة خفيفة فتشبثت بحزام من خلفه، يلف به أنبوب أكسجين يحمله في ظهره، كتلك التي يستخدمها الغواصون في الأعماق.
وصلا قريباً من مصدر صوت خرير المياه، كان كهفاً تؤدي لداخله صخور على جانبيه، وقفا مذهولين لسحره، لعمقه ومدخله المهيب.
كانت الرهبة قد بدأت تسري في أوصالهما، لكن طموح كلاوس كان أقوى من كل شئ، وضعا جانباً كل ما لا يحتاجانه للغوص، ثم بدءآ يسحبان جسديهما إلى الداخل.
كانت المياه صافية، وعميقة شيئاً ما، تبدوا صخور مدببة ومتناثرة أسفل قاعها، وتستمر مداخل الكهف المحمية بالصخور، كانا يلتفان بجسديهما مع التعرجات.
يضيق الكهف وينبسط، ليؤدي إلى كهف آخر، يضيئآن بالكشافات إلى مداها ويحدقان إلى آخر النفق الذي لا يحفل سوي بالصخور المتباينة الأحجام والمياه الصافية التي كانت تتحرك أسفلها ما يشبه الأحياء في طور اليرقات.
وجدا في طريقهما بعض الآنية الفخارية أسفل إحدى الكهوف، كانت بصورة ممتازة وبجانبها إحدى التماثيل يبدوا أنه لطفل من المايا، كان الوقت يمضي وكانا في ذهول مما يرون.
حتي دخل كلاوس كهفاً ترددت إيدّي في الدخول إليه، أحست بيد أخرى تجذبها خارجاً وتلقي بها بقوة، إرتعبت وصرخت :
كلاوس، كلاوس، أرجوك لا تدخل، عُد يا كلاوس.
لكن الأوان يبدوا أنه قد فات، سقطت من سقف الكهف صخرة ضخمة سدت مدخل الكهف الفاصل بين إيدّي وكلاوس، صارا محجوبين عن بعضهما البعض، لا يسمع أحدهما الآخر.
إرتعب كلاوس عندها، أحس بضيق فرصة الحياة حاول أن يرجع لكن لا سبيل لذلك، آثر أخيراً أن يذهب للأمام فقط، وكانت دنيا جديدة تفتح أمامه.
وأسرار وكنوز لا مثيل لها من البيوت المنحوتة على الصخر والحجارة، جدرانها تكسوها الرسوم ومقتنيات من الفخار والأحجار الكريمة وهياكل عظمية لموتي يبدوا أنهم من فئة النبلاء من فرط هالات الزينة التي تكللهم، وبجانبهم ما يعتقد أنها أضاحي بشرية كانوا يدفنون مع سادتهم ليخدموهم بعد الموت.
بدا كلاوس مذهولاً لما رأي وسيري، نسي حتى مأزقه الأكيد في أنه محبوس إثر تلك الصخرة التي سقطت وسدت عليه مدخل إحدى الكهوف.
لكنه آثر التقدم عبر سرداب آخر مثّل له كشفاً سيقف التاريخ أمامه طويلاً، كشفاً سيساعد في كشف خبايا حضارة المايا.
إنها تماثيل كهنة وبقايا بشرية، تظهر منها يد طفل وجمجمته، حيث ينبغي لنفوس الموتى عند المايا أن تقتفي أثر الرؤية في الظلام.
حمل معه كلاوس جمجمة ويد الطفل وإحدى التماثيل الصغيرة لأحد الكهنة، وبقايا حليٍ ذهبية وإحدى أواني الفخار.
كان ذلك كل ما يحتاجه لإثبات كشفه الجديد، عليه الآن أن يسلك طريق عودته، ذات الطريق الذي تسده الصخرة الهائلة، سيظل عند الصخرة، فمن المؤكد أن “إيدّي” ستطلب نجدة ما لتتمكن من أن تزيح الصخرة.
وصل عند الصخرة وللمفاجأة الهائلة وجد أن الصخرة قد تحركت من مكانها قليلاً بما يسمح له فقط بالمرور، تقدم بحذر، تملكته الدهشة عند عبوره من عند الفرجة.
إطمأن إلى أن صيده الثمين بحوزته، أغمض عينه لبرهة كمن يبدوا أنه أحس بوهن عابر، لكن الفرحة تملكته وهو يتحسس ما بحوزته.
أثار إنتباهه خيط رفيع بدأ يتسلل إلى الماء، لون أحمر قانٍ، يختلط بالمياه الصافية، تتبع ذلك الخيط من المياه، كانت المياه تزداد احمراراً ويزيد كلاوس معها دهشة تقترب من الرهبة.
صار يسبح داخل الكهف بقوة ويجدف بكلتا ساعديه، يتوقف لحظة ليتبين لون المياه، يجدها كلها حمراء متوهجة بلون الدم، أصبح قريباً الآن من مدخل الكهف الذي دخلوا منه.
تسلق الصخور وارتقي حتى اليابسة، ركض بقوة وفق إحداثيات الخريطة التي يحملها، يجري تارة هنا وأخرى هناك، حتي تمكن تماماً من تحديد مكان الخيمة التي نصبت لأجلهم.
وصلها أخيراً بعد أن وضع حمله خارجها وأسرع للداخل، وجد إيدي شبه غائبة عن الوعي وتهذي، وإحدى شرايين يدها مقطوعة ومربوطة بخرقة قماش تسيل الدماء منها.
حملها كلاوس بين يديه، كانت طيعة بين يديه ومتراخية تنظره بعينيها اللتان تقاومان أغماضة ما قبل الغياب عن الوعي، سرعان ما غابت.
وما زال شريانها ينزف رغم إستخدام كلاوس لكل ما يحمله معه من إسعافات أولية، لكنها تظل عاجزة أمام كمية الدماء السائلة.
وصل كلاوس للمركب الذي ما كانت مسافته بعيدة عن الخيمة، كان مرافقهما ينظف المحرك على ما يبدوا، إستعجله كلاوس ليدير محركه بأقصى سرعة بإتجاه الشاطئ الآخر حيث تقف السيارة التي كانا يستقلانها، طلب كلاوس من مرافقهما الإتجاه نحو أقرب مشفى، لم يكن بعيداً عن ضفاف النهر.
أدخلت “إيدّي” غرفة العمليات على عجل، وكان القلق يعبث بكلاوس، والحيرة تسد كل مداخل عقله، لماذا فعلت ذلك، لماذا فعلت ذلك؟؟
أفاقت إيدّي بعد ساعات من تدخل الطبيب، أفاقت وآثار مخدر العمليات يبدوا ظاهراً في نظراتها المشتتة وهمهماتها بما لا تدري.
مكث كلاوس معها حتى اليوم الثاني بالمستشفى، كان ذلك ضرورياً ليقدم إفادته لما حدث لضابط الشرطة، ذكر له كل ما حدث معه تحديداً، وسبب قدومه لقواتيمالا.
وأخذت كل أقوال “إيدّي” بعد أن أفاقت، ستحتاج إيدي لتقرير طبيب نفسي حتى تغادر المشفى، وليتمكن كذلك كلاوس من المغادرة إلى بلاده أمريكا.
قطعت إيدّي شرايينها قرباناً لأرواح الأجداد، تلك الأرواح التي لا ترضى بأقل من ضحايا بشرية وتلاوة التعاويذ التي حفظتها عن جدتها.
لم تجد إلا نفسها لتضحي بها وتنفذ كلاوس، الدم وليس غيره ما ترضى به أرواح الأجداد، سال الدم من شريانها ورضيت عنها الأرواح وإنزاحت الصخرة بما يسمح لكلاوس بالمرور.
سافر كلاوس إلى شيكاغو بعد أن تعافت إيدّي تماماً، لم يتبقى سوي ثلاثة أشهر فقط لمناقشة رسالته للدكتوراة، ثلاثة أشهر ويوافق التاريخ
2012/12/10 وبعدها بيومان ستكون نهاية العالم وفق نبوءة المايا.
صدقت نبوءة المايا وتعاويذهم وأرواح اجدادهم في إنقاذ كلاوس من موت حتمي.
وكان الشك لا يرقي لتلك النبوءة التي تتكئ على حسابات فلكية معقدة، مرسومة على جدران معابدهم.
أرسل كلاوس دعوة لزيارة الولايات المتحدة إلى إيدّي، وكان الإتصال بينهما مستمراً ولم ينقطع، لقد فعلت الاحاسيس أفاعيلها دون تصريح، سافرت إيدّي إلى شيكاغو لتكون حضوراً في مناقشة رسالة كلاوس للدكتوراة.
سافرت وهي مرغمة ومحملة بفكرة نبوءة المايا بنهاية العالم، كانت تود أن ينتهي العالم مع كلاوس، عند عينيه الجريئتين والجائرتين.
كانتا جريئتان في إكتشاف المستقبل، وجائرتان على مشاعرها منذ أول وهلة لمحته.
وجد كلاوس وقتاً كافياً ليستقبل إيدّي عند مطار شيكاغو الدولي، كان أول ما لمحها ان حاول أن يلمس موضع الجرح الذي ترك أثره أسفل معصمها.
الجرح الذي تتبعت فيه نبوءة المايا وتلت تعاويذ جدتها والتي كانت كافية لإنقاذه من أجل محتوم.
سرعان ما إستقلا عربة كلاوس صوب الجامعة، لم يتبقى على موعد المناقشة سوي زمن يسير يسمح لهما بالوصول من المؤكد.
كانت القاعة تعج بالحضور، المناقشين من البروفيسورات المرموقين وعائلة كلاوس وأصدقائه.
أطلت عليهم إيدّي ولوت أعناقهم جميعاً لقامتها التي تعج بالإرتفاعات الموزونة والتموجات التي تصيب النظرات بالتوهان.
إتخذت مقعداً إختاره لها كلاوس بعناية، وبدأت المناقشة التي برع فيها كلاوس وعرض أدلته الدامغة كلها عن حضارة المايا وعن الضحايا البشرية التي كانت أساس إرتباطهم بأرواح الأجداد.
مُنح درجة الدكتوراة مع إنبهار مناقشيه لما توصل له، مع توصية منهم بنشر الرسالة في المحافل الأثرية، وتعيينه أستاذاً مساعداً بقسم الحضارات في الجامعة.
مضى اليوم بليلته كلها، كان القلق فقط ما تنضح به ملامح إيدّي، لم يتبقى على نهاية العالم سوي لحظات، أو ربما سويعات، ولم يكن يملك كلاوس سوي ضحكته الفاجرة تلك.
سرعان ما إصطحبها لإحدى المطاعم المختارة من جانبه بعناية، تتوزع الأرائك فيه بخصوصية، تضيؤه الشموع وتصدح موسيقى خافتة من سماعات مثبتة أعلي السقف.
كانت إيدّي خائفة، متوترة تفرقع أصابعها وتمسح عرقاً بدأت تتشكل بلوراته على جبينها، وظل كلاوس يرقبها بحنو، ينظر إلى داخل عينيها.
تذكر تلك المواجهة عندما جذبها قبل أن تسقط قبالة الكهف، تذكر حينها كل شئ.
حتي محاولتها لإنقاذه، التعاويذ التي تُليت والشرايين التي تقطعت وحتى الدماء التي أريقت كقربان الأرواح كما أرادت إيدّي.
عند منتصف الليلة، وعند أوان نهاية العالم تماماً، أضيئ المطعم عن آخره وصدحت الموسيقى بأعلى صوت.
جثا كلاوس على ركبتيه، أخرج من جيب الجاكيت خاتماً مرصعاً بالألماس، طلب من إيدّي أن تقبل به زوجاً.
أنشد لها قصيدة إجتهد في حفظها، قصيدة كما روتها جدتها تماماً :
نحن أسياد هذا العالم
يفنى الجميع ويبقى المايا
نحن الأقوياء بلا شك
تحمينا الكهوف الحصينة
وتحرسنا المياه العميقة
نظل أوفياء لأرواح أسلافنا
هي سر سطوتنا ونبوغ أمتنا.
إنتهت
(التصميم من أفكار أبن عمي المبدع
Kamal Aldin
Abdalmahmoud)
Comments are closed.