احتجاج بشري يستعير سردية الغابة

38

متابعة:(صحوة نيوز)

يبدأ القاص والروائي المصري أحمد عبد المنعم رمضان مراوغة فانتازية مُبكرة عبر عنوان مجموعته «قطط تعوي وكلاب تموء»، فيقوم بلعبة استبدال صوتية للحيوانين الأكثر ألفة وشعبية، فالكلاب تستعير المُواء، في حين تتجاسر القطط نابحة دون اكتراث لأحد.

يبدو الولوج لعالم هذه المجموعة القصصية، الصادرة عن دار «الشروق» في مصر، أقرب للولوج لعالم لا يخلو من سريالية، حيث الحيوانات تُقاسم البشر مُربع سكنهم، وشوارعهم، وحتى ملامحهم، ويبدو البشر حِيّال ذلك في استسلام كامل لهيمنة الحيوانات على عالمهم، الذي يبدو وأنهم صاروا يتقاسمونه وفقاً لخطط حيوانات المدينة، فبطل إحدى القصص يلتقي قرداً ضخماً في ميدان «رمسيس»، أحد أكثر ميادين العاصمة المصرية ازدحاماً، قرد يضاهي القرود التي يشاهدها في أفلام هوليوود، لا يأبه البطل كثيراً بوجود قرد في ميدان عام، ولم يفزع أن يجده يسير بجواره ويلازمه، بل انساق وراءه في مغامرة: «ساقني خلفه في اتجاهات مُتعرجة بين بنايات وسط البلد العتيقة، بدا وأنه يعرف خريطتها جيداً»، يخضع بطل القصة لسطوة القرد، وسط دهشة سردية لا تخلو من طرافة كمشهد يجلس فيه بطل القصة مع القرد في مقهى، فيُصفق القرد لـ«القهوجي» وكأنه زُبون ُعتاد، ويطلب منه أن يأتيهما بكوبين من الشاي.

هذا الانقياد من تناص تخييلي تسعى المجموعة القصصية للتقاطع فيه مع فلسفات ونظريات تاريخية جدلية كنظرية «التطور»، ففي قصة «النهاية الداروينية» يخلق الكاتب سياقاً سردياً مُتخيلاً بين تشارلز داروين ومُريده المدافع الأول عن نظرياته عالِم الأحياء الإنجليزي توماس هاكسلي، ولكن هذه المرة يُحذره هاكسلي من خطورة نبوءته الجديدة التي يريد أن يُعلنها للعالم، وهي أن الجنس البشري سيتحوّل في نهاية سلالته خنازير، حيث التلاشي التام لمعالم الحياة الإنسانية وسط هيمنة الحياة البريّة. يبدو داروين في القصة وكأنه يُعلن نبوءته الكابوسية وهو على مشارف الموت: «ظل تشارلز مُكتئباً لأيام، تُطارده الخيالات في صحوه والكوابيس في نومه، تطارده خنازير وقردة وأفيال ووحوش ضخمة، يقطعون خلفه المسافات وهو يجري ببذلته الكاملة وشعره الأشيب ممسكاً بمنديله، يسعل، ثم يبصق فيه ويتحشرج صوته بينما يكمل عدوه وسط الأحراش».

لا تبدو «النبوءة» الداروينية معزولة عن السياق الوحشي الذي تتبعه المجموعة القصصية لأبطالها الذين يتقلبون في سياقات عنف يومية، وروتين يسحق إنسانيتهم، وأصواتهم، ويتركهم للتهميش، فمشهد الرجل الذي يأكل من القمامة، يشبه حروب عالم القطط الضالة في قصة «تلصص»، وكذلك في قصة «قطط في الحي الهادئ» التي تغزو الحي وراء نداء بطونهم وهي تهتك أكياس القمامة ومخلفات البشر، وسط انقسام من أهل الحي ما بين تعاطف وفزع من ارتفاع أعدادهم كل يوم، فيبدو البشر والقطط محكومين بمصير الطرد بشكل أو بآخر في مدنهم الحديثة.

ولا يخلو الشعور بالتهديد حتى في السرديات الخيالية، فبطل قصة «ثور ضخم بقرن وحيد» يربط بين الزلزال المُروّع الذي تستحضره ذاكرة طفولته وسط سقوط البنايات وتشرد العائلات والموت تحت الأنقاض، وبين أسطورة قديمة سمعها في هذا الوقت كتأويل للزلزال، وهي أن ثوراً ضخماً يحمل الكرة الأرضية فوق قرنه، وأن الزلازل ما هي إلا تراقص الأرض في أثناء نقل الثور لها بين قرنيه، ويظل البطل أسير تلك السردية المُتخيلة، يرى الهلاك رهناً بهفوة من الثور في لحظة تعب أو سهو قد تُدمر العالم.

Comments are closed.