ثورة ديسمبر تراجع اليسار و صعود التقليديين 3-4
بقلم :زين العابدين صالح عبد الرحمن
كتب الفيلسوف البريطاني جون استيورت ميل في كتابه ” الحرية” عن البراهين في الحوار يقول ( و من الغريب أن يعترف الناس بصحة البراهين المؤيدة لحرية المناقشة، و لكنهم يعترضون على الاغراق في تطبيقها إلي أبعد غاية، و المبالغة في تعميمها إلي أقصى نهاية، كأنهم لا يعلمون أن البرهان إذا لم يصدق على أقصى حالات الأمر فليس بصادق على أية حالة من حالاته) أن البراهين عديدة في السودان تبين كيف استطاعت القوى السياسية، و خاصة اليسار، و الذين يدورون في فلكه سعيهم من أجل السيطرة على الفترة الانتقالية، و محاولة فرض رؤاهم على الآخرين، و عبر السلطة و ليس عبر مؤسسة تشريعية منتخبة أو عبر الحوار الشامل..
أن الخلاف السياسي الذي اجهض ثورة ديسمبر أن القوى السياسية لم تستطيع أن تقرأ الأحداث من خلال المعطيات و الحقائق على الأرض لكي تستطيع أن تتبين أين مواقع القوة و أين يكمن الضعف في القوى الفاعلة في المجتمع، و أيضا في الساحة السياسية، و هناك بعض القوى السياسية تجعل تقديراتها وحدها هي الصواب حتى تتفاجأ أن تقديراتها كانت خاطئة.. و ديمقراطيا من حق أي قوى سياسية أن تتحرك بالفاعلية التي تريد إذا سمح الظرف لها بهذه الحركة، و لكن يجب أن تدرك ما هو الهدف الذي تصبوا إليه، و هل يتعارض مع آخرين، و كيف تكون ردة فعلهم المضادة؟ هذه أسئلة مهمة و هي تقي القوى السياسية الوقوع في وهم السيطرة على الآخرين..
أن أغلبية القوى التي وقعت على ” إعلان الحرية و التغيير” بعد سقوط النظام كانت الفكرة عندها كيف تنال حصتها من السلطة القادمة، و فشلوا جميعا أن يقدموا أي مشروع سياسي يخضعونه للحوار لكي يتعرفوا أفضل الطرق التي تؤدي إلي الصعود على عتبات التحول الديمقراطي و أنجاز مهام الفترة الانتقالية.. غياب المشروع الكل توجه إلي بوابة السلطة يصارع من أجل نيل نصيبه، هذا الاتجاه هو الذي ضرب الانقسام في التحالف، و رفع شعارات الإقصاء من أجل أبعاد العديد من كعكة السلطة.. استطاع اليسار أن ينشر عضويته المنتمية و التي كانت خارج دائرة الانتماء إلي جانب المستلفين شعارات اليسار، اعتقادا أن هذا الانتشار سوف يمكنهم من إدارة البلاد بالصورة التي يستطيعون بها إدارة الفترة الانتقالية و تحديد حتى فترتها الزمنية. في ظل هذا الاندفاع المحموم تجاه السلطة فقدوا وحدة الشارع كقوى كانت حافظة لتوازن القوى، كان لابد أن يخسروا السلطة في الصراع مع العسكر.
في الأسبوع الأول من يونيو 2021م أصدر الحزب الشيوعي مسودة ميثاق وبرنامج لقوى الثورة تحت عنوان (السودان، الأزمة وطريق استرداد الثورة). و قال الزملاء (إنها قابلة للإضافة والإلغاء والتعديل ويهدف البرنامج المقترح إلى تأسيس دولة مدنية ديمقراطية قائمة على المواطنة وتحقيق قواعد السلام، والوحدة في التنوع، وإصلاح القوات المسلحة والنظامية وينحصر دورها في حماية أمن وحقوق وحريات كافة المواطنين وحماية الحدود والأرض والثروات، وتعمل تحت أمرة القوى المدنية بعقيدة الولاء للوطن والديمقراطية والدستور) جيد أن تدفع قوى سياسية بمسودة ميثاق للحوار مع قبائل اليسار الشبيهة لها، أو القوى التي تعتقد أنها سوف تقبل التحالف على ضوء مشروع يفصل فيه تفصيلا القوى التي يريد أن يتوافق معها في الميثاق.. عندما يقول الميثاق (هي القوى صاحبة المصلحة في التغيير والتي تدرك قدرة الشعب على الصمود في جبهة المقاومة للسياسات المعادية لأهدافه ومطالبه سواءً صدرت من الحركة الإسلامية صاحبة المشروع أو من حلفائها الجدد المؤمنين بذات المشروع الذي رفضته ثورة شعبنا في ديسمبر 2018م) و لكن للأسف أن الميثاق انتهى مباشرة بعد صدوره و لم يكون له أثرا.. هذا الإهمال للميثاق كان على القيادة الاستالينية أن تدرك أن بناء تحالفات مفصلة بمرجعية سياسية صارخة لا تجد الهوى عند الآخرين…
الحقيقة التي بدأت واضحة للعيان: أن اليسار بسعيه من أجل السيطرة على الفترة الانتقالية و تلوينها باللون الذي يريده، و هي عملية كانتتحتاج لاستعداد كبير تنظيمي و فكري، فشل في إدارتها و أنجاز مهمها و تحولت الفترة الانتقالية إلي صراعات بين الحلفاء من أجل السلطة، واليسار بكل قبائله يفتقد الأدوات التي تجعله قادر على إدارة الفترة و متطلباتها.. الغريب في الأمر أن الزملاء يعتبرون أنفسهم العمود الفقري لقوى اليسار لكن أتضح أنهم على هامش العملية السياسية، و تتجنبهم قوى اليسار الأخرى و وضح ذلك عندما أهملت القوى السياسية جمعيهاالتعامل مع وثيقة الزملاء، و أثبتت تجربة ثورة ديسمبر أن اليسار جميعه يتعامل مع عملية البناء الديمقراطي من خلال رفع الشعارات فقط، و تضعف كممارسة داخل تلك التنظيمات و تكاد تكون معدومة،.. و رغم أن اليسار ينتقد الأحزاب التقليدية بسبب هيمنة الطائفية عليها فأحزابهم تعاني من ذات الإشكالية الشلة القابضة على الحزب.. في الأحزاب التقليدية العضو قادر أن يقول رأيه في المكان الذي يريده، و لكن غير مسموح للعضو في اليسار الحديث عن قضايا تحمل وجهة نظره الخاصة، إلي جانب انعدام الثقافة الديمقراطية، أضف إلي أن مرجعيات اليسار الماركسي و القومي بما هو مطروح يتعارض تماما مع المنطلقات الفكرية للديمقراطية.. هذا الإخفاق اليساري و بكل تياراته قدم فرصة ثمينة أن تعزز القوى التقليدية مكانتها في الساحة السياسية، و أن تعود بقوةلملء الفراغات الموجودة في الساحة السياسية..
أن اعودة لأحزاب التي تسمى تقليدية متوقعة لكنها هي نفسها تحتاج إلي إصلاحات تنظيمية و مؤسسية و فكرية تحكم عملها. و أن حزب الأمة في حاجة إلي إصلاح يتخلص من قواه الريديكالية التي ذهبت مع الميليشيا و العودة مرة أخرى لخط الإمام الصادق المهدي، و أيضا الإسلاميين لابد من مراجعة و تقييم تجربتهم في الإنقاذ. أن الساحة السياسية بعد الحرب سوف تشهد حركة فاعلة من قبل الأحزاب التقليدية الأربعة ” الاتحادي الديمقراطي دون أي مواصفات أخرى للأسم.. حزب الأمة القومي .. الإسلاميين بجمع الشمل.. الحزب الشيوعي و عليه أن يفتح حوارا مع قوى اليسار الأخر” هؤلاء كانوا قد خاضوا تجربة الديمقراطية من قبل و يجب أن يستفيدوا من دروس التجارب السابقة حتى يحدث الاستقرار السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي في البلاد.. نسأل الله حسن البصيرة..
Comments are closed.