مصطفى أبو العزائم يكتب (بعد.. ومسافة): لماذا لم يتحد السودان مع مصر..؟

86

عندما إتفقت حكومة الثورة المصرية ممثلة في اللواء “محمد نجيب” مع الحكومة البريطانية على منح السودان الحكم الذاتي وتم التوقيع على ذلك في الثاني عشر من فبراير 1953م ، بالقاهرة ، كانت الحكومة البريطانية ممثلة في سفير بريطانيا بمصر “السير رالف ستفينسون” وقد نصت تلك الإتفاقية على تمكين الشعب السوداني من تقرير مصيره ، وفي ممارسته له ممارسة فعلية في الوقت المناسب وبالضمانات اللازمة الكافية ، وهي اتفاقية قامت على (15) مادة تنظم شكل تنفيذ محتوى الإتفاقية ، وتعطي الجمعية التأسيسية المنتخبة في السودان الحق في اختيار الإستقلال التام ، أو إرتباط السودان بمصر على أية صورة ، مع تعهد الحكومتين المصرية والبريطانية بإحترام الجمعية التأسيسية فيما يتعلق بمستقبل السودان .

لم نعش تلك الفترة كما لم يعشها كثيرون من الجيل الذي ولد بعد الاستقلال في أول يناير عام 1956م ، لكننا عشنا وعايشنا ، وإقتربنا وسألنا من عايشوا تلك الفترة ، وبعض الذين أسهموا في صناعة أحداثها ، بحكم المهنة والبحث عن الحقائق ، وخرجنا بنتائج لا تختلف كثيراً عن النتائج التي خرج بها الساسة والباحثون في تاريخ السودان المعاصر ، أهمها باختصار شديد ، هو أن الصحافة السودانية لعبت دوراً مهماً ورئيسياً في تحويل وجهة الزعيم الراحل “إسماعيل الأزهري” ووجهة الحزب الوطني الإتحادي من الاتحاد مع مصر إلى الإستقلال ، وقد قاد تلك الحملة الصحفية المؤثرة أحد آباء الصحافة السودانية الحديثة ، وهو الراحل المقيم الأستاذ “بشير محمد سعيد”.

كثير من الساسة يبترون قصة الإستقلال بالمقترح من داخل البرلمان وتثنية النائب “عبد الرحمن دبكة” له من داخل البرلمان في التاسع عشر من ديسمبر عام 1955م

تشرفت بأن شاهدت بعض صناع الإستقلال من آبائنا الكرام ، وإستمعت إلى قصص متفرقة لكنها لا تختلف كثيراً عن بعضها ، لذلك رأيت أن نخاطب رئاسة البرلمان السوداني الحالي – المجلس الوطني – والمجلس التشريعي لولاية الخرطوم ، الذي تم إعلان الاستقلال من داخله ، خاصة وأن موعد الاحتفال بذكرى الإستقلال قد إقتربت ، بحيث لا نقصر الإحتفال على تلك الرواية المحفوظة ، إذ أن ما حدث يوم تقديم إقتراح الإستقلال سبقته خطوات وخطوات ، من بينها ما طالب به أستاذنا الجليل الراحل “بشير محمد سعيد” من خلال صحيفة (الأيام) التي أحدثت تغييراً كبيراً وثورة عظيمة في تاريخ الصحافة السودانية من حيث الحداثة والتطور والطباعة ، ثم كان هناك رجال آخرون لعبوا أدواراً مهمة أسهمت في أن ينال السودان استقلاله دون (شق أو طق).. أو كما قال الزعيم الراحل “إسماعيل الأزهري” وذلك النفر يجب أن يتم تكريمه والإحتفاء بما قدموه لأبنائهم .

روى لنا السيد الوالد الأستاذ “محمود أبو العزائم” – رحمه الله – أنه عندما إقترب موعد الإستفتاء على الاستقلال أو الإتحاد مع مصر ، إجتمع النواب المغفور لهم بإذن الله “حسن محمد زكي” و”الوسيلة الشيخ السماني” و”محمد كرار كجر” وأخذوا يتداولون في أمر الاتحاد مع مصر ، وإنتهوا إلى أنه ليس من حقهم أن يقرروا مصير السودان بالنيابة عن الأجيال القادمة ، وعليهم أولاً الحصول على الاستقلال ليقرر السودانيون بعد ذلك الإتحاد مع مصر أو غير ذلك ، وبدأوا نشاطهم وسط أعضاء الهيئة البرلمانية فكسبوا شخصاً نشطاً ومؤثراً هو الأستاذ الراحل “محمد جبارة العوض” وقد بدأت اتصالاتهم السرية جداً مع بعض زملائهم نواب الحزب الوطني الإتحادي ، وقد سمح لهم البروفيسور “محمد عبد الله نور” – رحمه الله – عميد كلية الزراعة بجامعة الخرطوم بعقد إجتماعاتهم بالكلية أو منزله – لا أذكر – وقد سمع بذلك المرحومان الأستاذ “مبارك زروق” الذي شجعهم على المضي في طريقهم ذاك ، والأستاذ “يحيى الفضلي” الذي فعل ما فعله “زروق” وسمع بالأمر الأستاذ “بشير محمد سعيد” الذي إلتقط الفكرة وتبنى الدعوة من خلال بابه الأشهر في تاريخ الصحافة السودانية (متنوعات أخبار وأفكار) ، لينتهي الأمر عند المجتمعين بتحرير مذكرة إلى رئيس الحزب – الزعيم “الأزهري” – يدعونه فيها إلى تغيير موقفه ، وسلموه المذكرة ، إلا أن الزعيم احتفظ بالمذكرة دون أن يرد عليهم ، فاتبعوها بثانية طالبوا من خلالها بدعوة الهيئة البرلمانية للحزب لتقرر بشأن مصير السودان (إستقلال أم وحدة مع مصر) وتأثر الشارع بمقالات الأستاذ “بشير محمد سعيد”، فكانت الجماهير تذهب جماعات ووحدانا إلى منزل الزعيم “الأزهري” تحمل ذات الطلب حتى أصدر رئيس الحزب قراراً بأن هذا الشأن تملكه جماهير الحزب في السودان ، ورأى أن يقوم بجولة يطوف فيها أرجاء البلاد ، وقد جاء تفويض من جماهير الحزب بدعوة الهيئة البرلمانية ، وقد تبين أن الجماهير أرادت الإستقلال ، فكان ذلك مقدمة لأخطر خطاب لـ”الأزهري” من داخل البرلمان وهو رئيس للوزراء عندما قال في معرض رده على مسألتين مستعجلتين إحداهما لنائب جنوبي والأخرى لنائب حزب الأمة “يعقوب حامد بابكر” – رحمه الله – جاء في الأولى تساؤل حول إتفاق سري تم بين الحكومة وجهات أجنبية لإنشاء قواعد في السودان ، وقالت الثانية إن طائرات أجنبية تحلق في أجواء السودان بتصريح من الحكومة ، فكان رد “الأزهري” بأنه لا يعلم شيئاً عما قال به النائبان وأنه ليس حقيقياً إلى أن قال إن حكومتي مهمتها تنفيذ اتفاقية السودان عام 1953م ، أن تسودن وظائف البريطانيين وأن تحقق الجلاء فتمت السودنة بحمد الله ، وتم الجلاء بحمد الله ، وسوف أعلن الاستقلال من داخل هذه القاعة يوم (الاثنين) القادم… وقد كان .

Comments are closed.