(بُعْدٌ.. و.. مسافة) مصطفى أبوالعزائم: السودان.. ومواجهة الأسلحة الجديدة!

55

عندما فشلت المعارضة بكامل تكويناتها المدنية والعسكرية، وبمختلف أحزابها في إسقاط النظام المايوي، وإبعاد الرئيس الراحل “جعفر محمد نميري” – رحمه الله – عن سدة الحكم بالإنقلابات العسكرية، وبالطرق التقليدية، إبتكرت أسلوباً جديداً ، تمثل في صناعة الأزمات الإقتصادية ؛ فكانت المعارضة ومن خلال رموزها الرأسمالية والإقتصادية تلجأ لأسلوب مبتكر ومستحدث في ذلك الوقت ، وهو صناعة أزمة الندرة بالنسبة للسلع والمنتجات الغذائية الضرورية ، مثل السُّكّر والزيوت والحبوب وغيرها ، وذلك بشرائها لتجفيف الأسواق منها ، ثم تخزينها أو إعدامها برميها في النيل ، مثلما إعترفت بذلك قيادات معارضة لنظام الرئيس “نميري” بعد أن زال في إنتفاضة السادس من أبريل عام 1985م .

ومع ذلك لم تؤثر تلك الأزمات المصنوعة كثيراً في إستقرار نظام مايو ، لأنه كان يستند على أرضية شعبية قوية ، من خلال برامجه التي طرحها وإلتف الشعب أو بالأحرى غالبية الشعب حولها ، وقد سقط النظام لاحقاً بفعل سياسي آخر ، عندما قامت السلطات بتسديد ضربة مفاجئة لحلفاء النظام من الإسلاميين وإيداع قيادات الحركة الإسلامية في السجون المتفرِّقة في “شالا” و”بورتسودان” و”الفاشر” و”كوبر” وغيرها ، فإنكشف ظهر النظام الذي إستمع إلى نصيحة “خارجية ” بضرورة تصفية القيادات الإسلامية ، أسوة بالتصفية السابقة التي قام بها النظام لقيادات ورموز الحزب الشيوعي السوداني في يوليو 1971م ، وفي هذين الأمرين أقوال كثيرة ، لكن النتائج كانت كارثية عام 1985م ، إذ تمت تعبئة الشارع تماماً ضد النظام والنقابات والإتحادات والمهنية التي سيطر “القادمون الجدد” على النظام بعد المصالحة الوطنية عام 1977م ، وقد كسب الإسلاميون كثيراً بفضل تنظيمهم وقوته ما جعل تلك الفترة أخصب فترات النمو للحركة الإسلامية وبرز – ربما لأول مرة – المعنى الحقيقي لكلمة “التمكين”.. وظهرت البنوك والمؤسسات المالية والإقتصادية الإسلامية ، فتنفس النظام الصعداء وصعدت أعلام الحركة الإسلامية إلى أعلى سارية مركب العمل السياسي في السودان ، إلى أن حدثت ضربة 1985م ، التي أنهت شهر العسل السياسي بين النظام وحلفائه.

الآن.. سيواجه أي نظام حكم إنتقالي يقوم في السودان ، حرباً شعواء من الداخل والخارج لإسقاطه ، وبعد أن فشلت كل تلكم المحاولات بما فيها المحاولات الإنقلابية وإستغلال المنابر الخارجية الإعلامية مع إستخدام أخطر أسلحة القرن الحادي والعشرين المتمثل في شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الإجتماعي ، وبعد أن يواجه النظام الإنتقالي الحالي أو المخطط له أن يكون ، كل هذه التحديات مع الصراعات السياسية الداخلية في القوى الحزبية، خاصة تلك التي تطمع في السلطة الدائمة دون إستحقاق إنتخابي ، والتي قادت إلى أن يدعو أحد أبناء السودان بعثة أممية للإشراف على التحول الديمقراطي ، نجد – مثلما شهدنا – إن هذه البعثة تنحاز إلى مجموعة ليست ذات وزن شعبي وجماهيري دون المجموعات أخرى ، لكنها مجموعة تجيد تضخيم الذات ، ويعلو صوتها على أصوات الآخرين ، وقد ظهر لنا بجلاء أن هناك بعض المؤشرات التي تشير إلى حدوث شرخ كبير داخل تلك الآلية التي ضمت ممثل البعثة الأممية وممثل الإتحاد الإفريقي ، والإيقاد ، بحيث إتضح ذلك بجلاء في المواقف المتناقصة والمختلفة بين مكونات الآلية الثلاثية ؛ تلك الأزمة الحادة كانت تنتظر الحسم من قبل قيادة الفترة الإنتقالية السابقة، ونحن نعرف إن الهدف النهائي هو تقسيم البلاد ، وكان لابد للنخب الواعية والمستنيرة أن تقف ضد ذلك المخطط الخبيث ، حتى تظل بلادنا متماسكة ، حتى يحسم الشعب السوداني أمره في الإنتخابات العامة  .

شخصياً أرى أن حسماً في الطريق ، صحيح أنني لا أعرف كيف سيكون أو ما هي صورته ، لكنه سيكون داعماً للشرعية ، مؤكداً على وحدة الوطن وهيبة الدولة .

نعود ونختم بما بدأنا به ، وقد لا يرى كثيرون علاقته بالموضوع ، وهو تجفيف الأسواق من الدولار .. الحرب إقتصادية لتركيع السلطات لصالح تلك المجموعات التي أشرنا إليها ، وها نحن نشهد إرتفاع أسعار العملات الأجنبية في الأسواق ، ونشهد إختلالاً بيناً في الفجوة الكبيرة بين مستويات الدخول ، وبين تكاليف المعيشة الآن ، نتساءل إن كان هناك رجال نافذون وراء هذه الأزمة الاقتصادية ، للوقوف في مواجهة أكبر وأخطر برامج الحكومات حالياً ودائماً ، وهو برنامج “الإصلاح السياسي” المرتبط بإصلاح الخدمة المدنية والإصلاح الاقتصادي ، لا لشيء إلا لإبراز “العين الحمراء” للقيادة ولمتخذي القرار بأنه يمكن خنق النظام إقتصادياً حتى الموت من قبل الرافضين لكل برامج الإصلاح.. وهناك لاعبون لا يريدون أن يغيبوا عن المشهد ، لكننا لا نستطيع التأكيد بأن سلاحاً جديداً قد دخل إلى ميدان المعركة يسمى “الدولار” لتأديب السلطة القائمة أو إسقاطها.. لا نستطيع التأكيد على ذلك لكننا لا نستبعده.. أما المؤكد فهو دخول أخطر سلاح لضرب العقول إلى بلادنا وهو إستخدام المخدرات حتى نغيب ويغيب أبناؤنا عن الحاضر ، ويصبح المستقبل في كف عفريت إسمه أصحاب المصالح من الدول الخارجية ذات الأطماع في مواردنا وأرضنا التي يريدونها أرضاً محروقةً.. خالية من البشر .
*Email : sagraljidyan@gmail.com*

Comments are closed.