انتحار العقل التقليدي و هزيمة الميليشيا
بقلم : زين العابدين صالح عبد الرحمن
أول سؤال يبادر لذهن القاريء عندما يقرأ العنوان:كيف أطلق مصطلح “الهزيمة” على الميليشيا و هي ما تزال تحتل عددا من المناطق؟ و الهزيمة ليست هي استسلام الميليشيا بالكامل، وطي هذا الملف؛ و لكن هزيمة مشروعها الذي بدأ أنهم بصدد إعتقال البرهان أو قتله، و استلام السلطة، ثم تحول للقضاء على دولة 56، و أخيرا الحرب على الفلول و الكيزان، و غيرها من التدرجات.. فهي الآن لا تقاتل من أجل مشروع بعينه، و ثبت ذلك من خلال تعديها على المواطنين، بالقتل و النهب و السرقة و الاغتصابات، و أخيرا كما قال وزير الخارجية الأمريكي ممارسة ” التطهير العرقي” أن المشروع الأول تم التخطيط له بواسطة العقل التقليدي، الباحث بأية طريقة لكي يستلم السلطة في البلاد، ظل رهانه بعد 25 أكتوبر 2021م على الخارج لكي يعيده للسلطة و لكن قد فشل في إدارة الأزمة، و تحول إلي استخدام القوة، عندما راهن على بندقية الميليشيا، و فشل مشروع الانقلاب، و سعى العقل التقليدي بشتى الطرق أن يعبيء الخارج لكي يصبح له رافعة للسلطة، و محاصرة الجيش و المقاتلين عبر تدخل دولي تحت البند السابع، ثم من خلال استخدام الإغاثة لدعم الميليشيا بالسلاح و التشوين و كلها تم إجهاضها..
رأهن العقل التقليدي على أن الجيش لن يستطيع أن يحقق انتصارا على الميليشيا، و عندما بدأت الانتصارات في استعادة ولاية سنار و كل مدنها و من بعد كانت ولاية الجزيرة و المصفى و الخرطوم بحري، و الثبات في الفاشر و هزيمة أفواج الميليشيا المسلحة.. كان الاعتقاد أن العقل التقليدي يعيد تقيمه للتجربة، و يدرسها بمنهج نقدي، لكنه جبل على التبرير و البحث عن شماعات يعلق عليها اخطائه.. فهو عقل لا يستطيع أن يفكر خارج الصندوق، و لا يستطيع أن يعيد قراءة الأحداث و متغيرات الواقع بواقعية لكي تجعله يرتب أوراقه من جديد وفقا لأولويات جديدة.. عجز و ظل منكفيء على فكرة تحقيق مصالح لفئة صغيرة فشلت في تجربة الحكم، و فشلت أيضا أن تدير أزمتها بإقتدار.. هو عقل مستلب منذ الحرب الباردة حتى اليوم يعيش في تلك الفترة، هي فترة علو كتفاليسار بكل تياراته في مواجهة الامبريالية، و الشعارات الثورية، و غيرها التي لم تنتج ثمرة واحدة في أية معركة مع الأمبريالية..
عندما عقدت قبل يومين قيادات تحالف “تقدم“ندوة لمعرفة “الهوة بين القوى المدنية و الجماهير” وقفت متأملا مام مقولة للرجل الثاني في “حزب البعث الأصل” عثمان أبو راس يقول في كلمته متسائلا ( ما هو برنامج الحد الأدني الذي يمكن اعتماده دون إلغاء أو تقاطع هذا البرناج مع التصورات الإستراتيجية لهذه القوى، أو تلك، دون الإخلال بترتيب الأولويات) يا رجل حدثنا حديث الواقع و ليس نقلا من الكتب.. أي تصورات إستراتجية التي تتحدث عنها، كل القوى السياسية التي كانت في تحالف ” قوى الحرية و التغيير” فشلت أن تقدم برامجها للجماهير لا مكتوبة و لا مخاطبة في ندوات سياسية، و فشلت أن تؤسس مشروع سياسي للتحالف.. لم يكن للأحزاب منفردةأية مشروع.. كما قال مهدي عامل كنتم تمارسون السياسة بجدل اليوم، أن الأحداث هي التي تفرض عليكم التعليق عليها دون إدارتها، و سياسة جدل اليوم تجعل القيادات و النخب غارقة في الأحداث اليومية دون أية رؤية تقودها أو تجعلها تخرج من أزمتها .. يا رجل: تحدثنا عن تصورات إستراتيجية،و أحداث اليوم هزمتكم، السيد أبوراس أنت محتاج أن تترك قراءة الكتب الصفراء في السياسة التي تجاوزتها الأحداث منذ نوفمبر 1989م عندما تهاوى حائط برلين، و بدأت بعده شعوب الدول الشرقية هجرتها إلي الغرب.. و الأمبريالية هزمت البعث في العراق و في دمشق و من قبل هزمت الناصرية في مصر، لذلك لم تعود شعارات تلك الفترات صالحة الآن.. خاصة أنكم كتيارات قومية و أيضا ماركسيين ارثوذكسيين لم تقدموا أية نقد لتلك التجارب و تجاربكم الخاصة، و حتى الذين اجتهدوا في التقديم قد تم فصلهم، لكي يبقى العقل الدوغمائيمسيطرا..
أن الأحزاب السياسية إذا لم تعيد قراءة مرجعيتها لكي تجعلها تتوافق مع شعارات الديمقراطية التي ترفعها، ستظل تعتمد على التكتيكات الخادعة لعضويتها و الجماهير، و الأحزاب التي ترفع شعارات الديمقراطية الآن و هي لا تمارسها داخل أحزابها تمارس الخداع و الغش على الجماهير.. أن العقل الذي يبني تصورات و هو غير قادر أن يبين الافتراضات التي أسس على ضوئها فكرةالتصورات، سيظل على هامش العملية السياسية، و سيظل عاجز عن التحليل السليم لمجريات الأحداث.. و السؤال: لماذا أخذت حديث أبوراسمثالا في المقال؟ لأنه أكثر الذين تحدثوا في الندوة تجربة نضالية، و تجربة عريقة في الصراع داخل حزبه، و يجيد القراءة في مجلد ” نضال البعث”الذي يحكي تجارب الصراع و الانقسامات في الحزب.. تراكم المعرفة و الثقافة السياسة عنده مؤسسة على الانقسامات و ليس على عملية البناء و النهضة..
أن العقل التقليدي في السودان يعاني حالة “موت سريري” لا يستطيع أن يتفاعل مع الأحداث، و غير قادر على إعادة قراءتها لكي يتعرف علىالميكانزمات التي تحركها، و القوى الاجتماعية المؤثرة فيها، هو عقل جامد يحاول التشبث بالمصطلحات التي اسقطها الفكر السياسيالحديث، باعتبار أنها غير مؤثرة في المجرى العام للصراع داخل المجتمعات و بين الدول.. الأحزاب تحتاج إلي طليعة جديدة تمتلك عقل حر ليس عليه قيود، و لا يبني تصوراته على المصالح الخاصةللأفراد، و لا يردد شعارات لا يفهم هدفها، عقل قادر أن يفكر لكي ينتج أفكارا تساعده على عملية التغيير.. أن العقل التقليدي غير قادر على تفكيك أدواته القاصرة، و غير قادر على إنتاج أفكار جديدة تساعد على الحلول و النهضة، سيظل عقل أزمة و إنتاج أزمات.. نسأل الله حسن البصيرة