بين العسكرية والمدنية.. هل سيضيع السودان؟ 

90

بقلم: عميد شرطة(م) محمد ابوالقاسم

المتعارف عليه أن الدولة العسكرية تعني السيطرة المطلقة للجيش على مقاليد الحكم بمعنى أن تكون الحاكمية والمرجعية في كل ما يتعلق بإدارة الدولة للمؤسسة العسكرية.

ولا مكان في الدولة العسكرية لسلطة مدنية فالسلطة لمن يملك القوة ولذلك لا صوت يعلو فوق صوت العسكر، وهذا يعني أن كل القرارات التي تصدر في الدولة على إختلاف أنواعها هي قرارات صادرة من قادة عسكريين، فلذلك من غيىر المتصور أن يكون هنالك إعتراض عليها أو مقاومة لتنفيذها، فالقوة حاضرة والمعتقلات جاهزة والقدرة على القهر والجبر متوفرة.

أما الدولة المدنية بسلطتها المدنية التي تقوم على أجهزة الدولة ذات الطبيعة غير العسكرية التي يسند إليها تطبيق القانون والنظام، ويتم تداول السلطة فيها بصورة ديمقراطية دون حجر على رأي أو إستثناء لفئة.

وتستند هذه الدولة على الحرية الكاملة التي لا تقيدها الا المعتقدات والأعراف التي يتبعها أغلبية السكان، كما تمتاز  الدولة المدنية بالعدالة التي يطبقها قضاء مستقل حر ونزيه لا كبير فيه على القانون، يتوخي العدالة ويحافظ على الحقوق ويردع المتجبرين وينصر الضعفاء، متقيدا بقانون واضح لا لبس فيه ولا غموض.

بالله عليكم وبعد هذا التعريف المختصر لما يعرف بالدولة العسكرية والدولة المدنية، هل عرفتم أين نقف!!؟، بكل تأكيد أنتم في حيرة من أمركم ذلك أن دولتنا ليست عسكرية كما أنها ليست مدنية!! ، إنها دولة فوضوية يحكمها شركاء متشاكسون دون برنامج واضح، لا حدود فيها بين الحرية والفوضى، ولا إحترام فيها لعقيدة ودين وأعراف، المواطن فيها مغلوب على أمره، فهو جائع يتحصل على قوته بشق الأنفس بعد أن يدفع النفيس، وهو خائف لا يشعر بالأمان، لا أحلام له ولا أمنيات ولا تفكير مستقبلي ولا طموح بأن يكون هنالك وطن يشعر فيه بحريته وكرامته وأمنه.

بين العسكرية والمدنية أيها السادة يضيع الآن الوطن ، والحقيقة أن المشكلة لا تكمن في من بيده السلطة هل هو عسكري ام مدني، مشكلتنا تكمن في النظام الذي يحكمنا، فقد يكون الحاكم عسكري ويتيح حريات معقولة ويتبع نظام حكم فيه قدر من الديمقراطية محكوم بدستور ينتج قوانين تحترم حق الانسان في ممارسته لحياته الطبيعية دون أن يتعدى على حرية الآخرين.

نظام يسمح بقيام مجلس تشريعي ومؤسسات حكم ديمقراطية على كل المستويات، نظام خاضع لسلطة قضائية لها القدرة على حل كافة المنازعات بين كل الأطراف بالعدل، وتتمتع بالإستقلالية الكاملة ودرجات للتقاضي والرقابة على الاحكام القضائية.

وقد يكون النظام مدني بعقلية عسكرية تنصاع له المؤسسات العسكرية وتكون يده الباطشة وهو يقيد الحريات، ولا يحترم القضاة، ويصل إلى درجة أن يوقفهم عن أداء عملهم، بل ويفصلهم ويحيلهم للتقاعد إذا لم تعجبه وتنال رضاؤه احكامهم.

والمدنية تتمتع بفوضى تعمل على هدم الوطن بقصد او بدون قصد فتشرد الكفاءات وأصحاب الخبرات في كل المؤسسات الوطنية بحجة عدم الولاء السياسي ويكون المتضرر هو الوطن ومواطنيه، وقد يكون الحكم المدني لا برامج له ولا هدف سوى تصفية خصومه السياسيين ، فينشغل بذلك عن مواطنيه دون أن يلبي حاجياتهم لكنه لا ينسى أن يعدهم بالعبور والٱنتصار وهم في كل مرة وحين يستمعون وقد ٱعتراهم البؤس والخوف وفقدوا الأمل في كل قادم.

هذا النظام الفوضوي الذي يحكمنا الآن تختلط فيه الصلاحيات فيتحدث رئيسه عن عدم مسئوليته عن الأمن الداخلي بإعتبار أنه مسئولية رئيس الوزراء، بينما يتحدث المدنيون عن أن الأمن مسئولية العسكر، وبين هذا وذاك يضيع الوطن ومواطنيه فمن أراد أن يغلق طريقا او يقفل أبواب لمؤسسة وطنية وإستراتيجية، فعل ذلك دون تردد ودون ٱعتبار لإي نتائج ، وكان فعله هذا نشاطا سياسيا يحتاج لحل سياسي دون تدخل أمني وعلى المواطن الصابر المغلوب على أمره أن يصبر على عدم توفر العلاج والخبز وكل مقومات الحياة، وينتظر الحل السياسي مع أحلام جميلة بالعبور والٱنتصار .

في ظل هذا النظام الفوضوي إنتفش ريش بعض السفراء فانتهكوا كرامة الوطن، واستسهلوا التدخل في شأنه حيث لا يردعهم رادع، فتجولوا في لقاءات علنية مع زعماء قبائل وأفراد، أوهموهم بأنهم أصحاب نفوذ وتأثير ، وصار الوطن لعبة وساحة نزال لأصحاب المصالح، والمواطن المغلوب على أمره في حالة من الجوع والخوف، سيادته منتهكة، يباع ويشترى، ويتحدث الكل بإسمه، وهو ينظر متحسرا إلى تاريخ السودان حيث كانت السيادة خطاً احمر لا تهاون فيه.

وكانت عزة وكرامة الإنسان السوداني هي أغلى ما يملك، وتاريخنا حافل بما يدلل على ذلك منذ المهدية وخطاب الخليغة عبدالله التعايشي إلى الملكة فكتوريا “إن أسلمت وحسن إسلامك زوجناك الأمير يونس ود الدكيم”، وحتى البشير بكل سؤاته كان يصرف البركاوي ويطرد كل دبلوماسي متطاول، وبين هذا وذاك الكثير من المواقف التي تشير إلى عزة وكرامة الإنسان السوداني.

وعلى أية حال فالذي ينظر للدول التي من حولنا أفريقية أو عربية يصل إلى قناعة تامة بأن هذا الأقليم يناسبه تماما النظام الشمولي، والذي هو في في أغلب الأحوال نظام عسكري خالص أو نظام للحزب الواحد، وتتأكد هذه النظرة بمراجعة سريعة لتاريخنا السوداني ذلك أن الأنظمة الشمولية شهدت فيها البلاد إستقرارا لفترات طويلة كما شهدت مشاريع قومية إستراتيجية وتنموية لم تتوفر في ظل غيرها من الأنظمة، ولعل ذلك يعود إلى طبيعة تكوين مجتمعاتنا التي تتميز  بتفشي الجهل ونقص في نسبة الوعي والتعليم.

إضافة إلى موروثات وتقاليد وأعراف وثقافات وعادات جعلت منها مجتمعات منقادة ٱنقياداً أعمى لزعماء لهم حق تقرير مصير رعاياهم  مستندين في ذلك على أسس قبلية أو دينية أو طائفية ، وهذا التوصيف والوضع المجتمعي يجعل من الصعب أن يكون هناك تقبل للٱخر وإحترام لرأيه ، ولذلك عادة ما تفشل التجارب الديمقراطية لعدم مناسبتها للسلوك المجتمعي وتعاملاته، ولعل تاريخنا السياسي يؤكد هذا القول.

ولعله من المناسب القول الآن بأن الوطن ليس في حاجة إلى عسكرية خاضعة لأجهزة إستخباراتية دولية تقودها وتخطط لها ، ولا إلى مدنية تسير على درب العمالة والإرتزاق وتظن أنها مسنودة بدول عظمى تسن لها القوانين وتوفر لها الحماية، الوطن يحتاج لروح وطنية خالصة تحافظ على كرامة وعزة المواطن السوداني، وتعمل بصدق على تحقيق رفاهيته وإعلاء شأنه بين الأمم.

Comments are closed.