د.عبدالسلام محمد خير يكتب: رموز بلد يتوسطهم (أحمد)
كأنما الحرب هذه غايتها أصلا تعميق الأسى على ما فقدت البلاد من رموز وعناصر عزيزة..
كم مضوا في هذه الأجواء المتباعدة تاركين سيرة عامرة متداولة هي العزاء لمن لم يصل وما تواصل..
إن رحمة الله أوسع لمن تمتعوا بنكران الذات وعمل الخير والتضحية بالأغلى..
الاشارة لفضلهم واجبة قرين الدعاء لهم عسانا ندرك بعض ما استحقوا من وفاء، حمدا لله على ما قدموا.. أحسن الله إليهم جميعا.
إزدهت المنصات بسيرة رموز وشخصيات قومية رحلت إلى جوار ربها بلسان حال رطب بذكر الله، والحمد لله (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ)- طه
..كتبت وغيري كثيرون، فتمنينا لو تم التوثيق لحياتهم بالكامل ليعم فضلهم..
خطر لي ذلك وأنا أتامل ما قيل في وداع الأستاذ أحمد عبدالرحمن محمد، عليه رحمة الله، كشخصية قومية إقترنت بسيرة عديدين تميزوا بعطائهم- كما سنرى.. عرفته خطفا (وسط) الوان الطيف السياسي- متبسما في كل حال.. برزت شخصيته يوم إنشغلت البلد بأمر (المصالحة الوطنية) التي ظلت هاجس أهل السودان إلى يومنا هذا.. ورد عنه الكثير، جملة القول فيه إنه (هدية بربر للسودان)- رحمه الله.
ورد أنه كان شريكا لزعماء البلاد الذين تصدروا نضال الجبهة الوطنية بالخارج ضد نظام مايو.. بعد المصالحة عاد وتقلد منصب وزير الداخلية.. ورد أنه تخرج في آداب جامعة الخرطوم وله دراسات عليا في الإدارة، هولندا.. إنخرط في سلك الضباط الإداريين.. عمل بمعهد الإدارة العامة بالمملكة العربية السعودية.. شارك في تأسيس مؤسسات عليا منها جامعة أفريقيا العالمية.. إختير وزيرا للداخلية بعد المصالحة، ثم وزيرا للشؤون الإجتماعية في أول حكومة منتخبة بعد الإنتفاضة.. إسهاماته العامة ظلت أوفر وأكبر.
جرى نعيه كأحد رموز البلاد ممن (يمشون بين الناس بالحسني).. ورد في قروب لإستراتيجيين أنه أحد (الرموز الوطنية الإسلامية البارزة في السودان) وأنه (بين أكثر الرموز الإسلامية إنفتاحا على الآخر) وأنه (صاحب علاقات وطيدة مع قوى المجتمع الفاعلة).. إلى غير ذلك من الخصائص التي تقرب السياسي من الناس، مما يعينه على المهام الكبرى.. ولعله إكتسب خاصية القرب من الناس تلقاء (عطبراويته) المطبوعة، فوالده عمل بالسكة حديد، وكفي.. أفاض في ذلك إبن عطبرة، نجم (الشرق الأوسط) ومدير مكتبها بالخرطوم يوما، الصحافي المرموق كمال حامد في زاويته الصحفية الأسبوعية واسعة الإنتشار(من السبت إلى السبت).. إستهل بقوله (بموته إنطوت صفحة من صفحات تاريخ الطِيبَة وعلم الإدارة الحديثة والمشي بين الناس بالحسنى.. إشتغل بالسياسة ولكن بعيدا عن التهريج والمناصب الدستورية الكبيرة).. ولا الألقاب إلا ما تجرد منها مستطابا على لسان الأتراب (أحمد).
0.. من الخارج للداخلية.. و(الكرسي الساخن):
لا يذكر إسم (أحمد) إلا داعبت الأذهان تجربة المصالحة الوطنية بما اكتنفها من ملابسات تنعش المزاج السياسي للسودانيين وميلهم للتعايش وللوفاق و(ما لا يفسد للود قضية).. يظل الأمر جديرا بالذكر في كل منعطف لما حفل من إرادة واستقطاب لنزعات الشخصية السودانية ذات الطابع القومي.. سيرة الأستاذ أحمد عبدالرحمن حافلة بتفاصيل ما ظل غامضا ومنه لقاء في عَرض البحر الأحمر بين الرئيس نميري والسيد الصادق المهدي، والوسيط، ود البلد، السيد فتح الرحمن البشير- شخصية قومية، رجل أعمال، نجم مجتمع، من سلك الضابط الإداريين الذى ينتمي إليه أحمد عبدالرحمن.. وهناك شخصية قومية أخرى يبدو كأنها كانت (مُدَخَرة)، جنرال صامت يتمتع بعلاقات إجتماعية واسعة، أصبح فيما بعد نائبا أول لرئيس الجمهورية (عمر محمد الطيب).. فضلا عن عناصر الإتفاق من زعماء الأحزاب – رحمهم الله جميعا.. إسم الأستاذ أحمد عبدالرحمن محمد سطع عنوانا (لما حدث) بتفاصيله الغامضة المشوقة.. برنامج تلفزيوني شهير (الكرسي الساخن) للصحفي حسن ساتي، عليه رحمة الله، وزميله أحمد البلال، رد الله غربته، كلاهما أصبح فيما بعد رئيسا للتحرير وناشرا فزا.. وضعاه بجرأة في مواجهة أمام الرأي العام على خلفية (ما حدث).. عرفه الناس وإستبانوا خفايا مصالحة كان لها ما بعدها في تاريخ الحكم وفى تأثير(الشخصية القومية) على إعتدال المزاج العام ومآثرالتجرد والتقارب وجمع الشمل والتنادي (إلى كلمة سواء) – حاجة البلاد، ما زالت..ملهمة الحلول الإستثنائية.
0.. ملهمات.. وحلول إستثنائية:
خصائص الشخصية القومية تتجلى في تجربته كوزير للشؤون الإجتماعية في حكومة السيد الصادق المهدي التي واجهت حرب الجنوب وتبعاتها ومنه النزوح شمالا حتى الخرطوم.. لقد رحب بهم عبر زعماء قبائلهم وتلقاء مفهوم (أن ينزحوا شمالا خير من أن يكونوا لاجئين بدول أخرى).. أسس (معتمدية النازحين) وإختار لها شخصية قومية، السيد محمد الحسن عوض الكريم، محافظ شهير- النيل الأزرق، الخرطوم.. نجحت المعتمدية في إمتصاص أزمة الثقة بين الشمال والجنوب وأشاعت ثقافة السلام.. تمنيت لو أن تجربة هذه المعتمدية الإستثنائية حظيت بالتوثيق من باب العلم بعمل إداري إنساني شاق تم إنجازه بشغف.. إقترحت ذلك لمعتمدها الأخير، دكتور عبدالعظيم عبد الله التوم، فعاجلنى بقوله متبسما (الله عالم.. وله الحمد)!.. نعم.. الحمد لله.
0..إداريا إنسانيا مجددا.. كان:
بعيدا عن السياسة قريبا من الإدارة كان يبدو وهو وزير للشؤون الإجتماعية.. يستشهد بمعاملات الأجانب للمتأثرين بالحرب، ويقول (نحن أولى بالمعاملة الحسنة).. كان من حَدَاة (إنسانية الإدارة).. يبدو متأثرا بنهج الحكم المحلي (الشعبي) وتجربة الضباط الإداريين الذين أُعِدوا كقادة محليين يصعدون (بالكفاءة لا بالأقدمية)- كتجربة السيد سعد عوض محافظ مديرية النيل، والسيد بابكر النافع محافظ الخرطوم، رحمهما الله، ضمن مبادرة (أن يكون الحكم الشعبي المحلي أساسا لحكم البلاد عبر قيادات قاعدية مُجَدِدَة).. لماذا لا؟!.. كأنها الآن مبادرة بإسمه، مؤسسة تحيط عمليا بهذا المفهوم وبخصائصه التي تعددت لدى رحيله، أكرمه الله.