الزين صالح يكتب: هل يصبح حمدوك فولتير السودان؟

359

بقلم: زين العابدين صالح عبدالرحمن
تحكى قصة الكاتب والأديب والفيلسوف الفرنسي الذي ظهر في عصر التنوير فرانسوا ماري أرووية المعروف “فولتير” الذي مر عبر مرحلتين في حياته أثرتا فيه تأثيراً كبيراً، أنه كان كاتباً ساخراً حتى عندما ولج للفلسفة لم تفارقه سخريته، ورغم أنه معروف بأنه من الذين عبدوا طريق الديمقراطية في فرنسا، إلا أنه في بداية رحلته المعرفية والثقافية لم يكن يؤمن بالديمقراطية بالصورة التي كان يتبناها فلاسفة عصر التنوير.

فكان ناقدا للعقد الاجتماعي الذي اقترحه الفيلسوف جان جاك روسو، وقال أننا غير محتاجين لهذا العقد، خاصة أن العقد يوحد بين الطبقات المختلفة للمجتمع، وأن الديمقراطية يجب أن يمارسها الذين يملكون المعرفة، والوعي الكامل، وليس الذين هم في قاع المجتمع حيث تقل عندهم المعرفة والوعي السياسي والاجتماعي.

رغم هذه الأراء لكن كان الرجل مؤمنا أن الإصلاح ضرورة مهمة، لأنه كان يؤمن بالحريات الفردية، وكان ناقدا للثنائي الملك والكنيسة، لذلك قال له الملك لويس الثاني عشر عندما قابله في حديقة عامة سوف أجعلك تزور الباستيل من الداخل، وبالفعل سجن عدة مرات ولكن لم تلين عريكته، وجاء حب الناس إليه بسبب سرعة بديهيته وأسلوبه السلس الناقد، واللاذع في نفس الوقت، ورغم سخريته لكن كان صارما جدا في موقفه من ممارسة الآخرين خاصة النبلاء، الأمر الذي جعل العديد من فلاسفة عصر التنوير يتأثرون به رغم نقد بعضهم له.

أن معاركه مع البلاط الملكي في فرنسا والكنيسة وأيضا مع الصفوة “النبلاء حاشية الملك” تم نفيه إلي أنجلترا بسبب إهانته إلي أحد الشبان الذي يتبع لطبقة النبلاء، لذلك طبعت في مخيلة فولتير العمل من أجل إصلاح القضاء في فرنسا.

ووجوده في انجلترا كانت المرحلة الثانية في تطور فكر فولتير حيث وجد أن الملكية في انجلترا مقيدة وليست مطلقة كما حاصل في فرنسا، كما أن الحرية واسعة لا يقيدها إلا القانون الذي لا يسمح بالتعدي على حرية الآخرين، وتأثر أيضا بالأدب الانجليزي والثقافة السياسية هناك، لذلك رجع بعد ثلاث سنوات في المنفى إلي فرنسا وهو أكثر اتساعاً في المعرفة وخاصة الفكر السياسي وأكثر إيمانا بالحرية وبالأدب الانجليزي الذي يعتبر شكسبير رائده لكن كان فولتير لديه رؤية مخالفة تماما للأدب الكلاسيكي.

لكل ذلك كان يمثل انطلاقة جديدة في إنتاج فولتير الأدبي وخاصة في المسرح وأيضا في الفلسفة، ولا ننسى مقولته “إنني لا أوافقك الرأي لكن مستعد أن أموت في سبيل أن تقول رأيك”، هذه قصة أحد أبرز دعاة التنوير.

نحن في السودان تختلف المسألة عند نخبتنا تماما، أنهم مستعدون أن يقتلوك معنويا وجسديا حتى لا تخالفهم الرأي، حتى وسائل الإعلام في السودان تسير على البعد الواحد رغم تعدد الشعارات التي تنادي بالديمقراطية، الكل ينادي بالديمقراطية ويجعل رؤيته مقياسا على الأخرين، والديمقراطية تنتج ثقافتها من خلال الممارسة والجدل اليومي.

والمقاربة تتأتي من خلال أن حمدوك نفسه مر بمرحلتين في التكوين السياسي، عندما كان طالبا حيث إختار المرجعية الريديكالية التي تنطلق من المقولة الفلسفية، أن الثقافة والإبداع والفنون جميعها تمثل البناء الفوقي للمجتمع، والذي تؤسس قاعدته التحتية من العلاقات المادية وخاصة علاقات الانتاج، والقوة المادية هي التي تشكل حجر الزاوية في التطور الاجتماعي.

ودون أن نذهب إلي أي فلسفات وخيارات أخرى، نجد أن التغيير في وعي بعض الشعوب الذي أحدثه التطور في تكنولوجيا الاتصال كان له أثرا واضحا في عمليات رفض الديكتاتوريات، مثال “ثورات وانتفاضات الربيع العربي” وهو الإفراز الحقيقي للفسلسفة الرأسمالية والبناء الفوقي “الوعي” خلقته وسائل الاتصال في مجتمعات لا اريد أن أقول متخلفة لكنها “متواضعة”، الذي قاد العديد من الشعوب إلي الوعي والوعي السياسي الجمعي، والذي جعلهم يقدمون على التحرر من الديكتاتوريات، وحتى إذا أصاب بعض الشعوب الوهن لكنها سوف تعيد الكرة مرة أخرى، مادمت وسائل الاتصال في تطور سريع سوف يتيح لهم التواصل بعيدا عن البصاصين.

لذلك كان حمدوك في بداية مسيرته السياسية واقعا تحت تأثير فلسفة قد تجاوزتها الشعوب الساعية للتحرر والانفكاك، الأمر الذي كان قد جعله يفكر في محيط ضيق، ذهب حمدوك للخارج بسبب فصله عن العمل، وعمل مع المنظمات العالمية، وتفتح ذهنه على خيارات أفضل من قناعات قديمة كانت لا تساعده على الانطلاق في عمله الجديد، لذلك وصل لقناعة جديدة لا توجد أشياء قطعية في عالم السياسة طالما أن الجميع يتحاور لتقريب وجهات النظر، والمواقف الصفرية تؤدي إلي تعقيد الموقف” وهي كلمات قلائل لكنها تحمل عمقا فلسفيا، يؤكد التحول في فكر حمدوك.

وتجدها تخالف ما كتبه السياسي التاريخي المؤدلج الأستاذ سليمان حامد في مقال له “حسم الشعب السوداني أمره: بقراره لا مشاركة ولا تفاوض ولا مساومة مع العسكر” ولا ألوم الرجل هو يعبر عن ثقافته ومرجعية فكرية مغلقة لا تتيح له الانفتاح على الآخر بالصورة التي تبين أن هناك أمل، وهو يعلم يقينا “أنه شعار حزبي وسيظل حزبي، لأن السياسة هي حوار وتفاوض والبناءات المغلقة حتى في المصطلحات تؤدي نتائج مبهمة وإلي أفاق مغلقة شمولية، فالتفاوض والحوار ليس حبا في العسكر ولا اعتقد هناك عاقلاً يؤمن أن العسكر سوف يتحولون لكي يصبحوا ديمقراطيون، لكنه ينقذ أرواح من الموت وأموال تنفق ويحقق خطوات تجاه البناء الديمقراطي.

جاء حمدوك مرشحا من داخل قوى الحرية والتغيير، ورضخ لكل مقولاتها، إلا في الاقتصاد الذي أختلف معها بصورة قطعية، وفي الأشياء الأخرى أراد أن يمنحها فرصة أن تقدم مشروعها السياسي لكنها فشلت في ذلك، وفترة السنتين أيضا مثلت تراجعا لحمدوك لأنه حاول أن يقدم فرصة من خلال التعينات للوظائف القيادية في الخدمة المدنية للمحاصصات الحزبية، وأيضا ضعف الحاضنة السياسية وعلاقتها القوية بالعسكر ذلك الوقت جعله يتراجع عن مواجهة عقل البندقية ممثل في العسكريين وأيضا بعض الحركات، هؤلاء لايملكون الثقافة الديمقراطية ومؤسستهم لا تقدم ثقافة ديمقراطية ولا النظام الذي كانوا يعملون فيه يتيح مساحة للرأي الأخر، الأمر الذي جعل الفترة تواجه بتحديات كثيرة جعلتها كوابح لا تساعد على الانطلاق في عملية التحول الديمقراطي، حتى كان الانقلاب الذي أسس لمرحلة جديدة، لكنه أيقظ النائمين أن الثورة ليست شعارات فقط ومسيرات تخرج بل هي عمل علمي مؤسس متواصل يجب أن يكون مصحوبا بالوعي المجتمعي وتقديم المبادرات للحل، وخرجت الجماهير تدافع عن مصالحها وعن الديمقراطية، الأمر الذي أرخى قبضة العسكر وجعلهم يقبلون المساومة مرة أخرى.

وخرج حمدوك ووقع البيان السياسي الذي إعتبره بيان إطاري، لكي يفتح هوة كبيرة في بنية الانقلاب، ويرجع عجلة الديمقراطية لمسارها الطبيعي، ورجوع العجلة يحتاج لعمل أخر، أن يبدأ الرجل في تكوين المؤسسات التي تؤسس لعملية التحول الديمقراطي، لكنه واجه بصد من قبل القوى السياسية المنقسمة لأربعة اقسام، الأول يريد الرجوع للسلطة مرة أخرى رغم حالة الفشل التي كانوا فيها، الثاني يرفع شعارات عدمية ليست لها واقع في عالم السياسية، والثالث يقف على السور، والرابعة هي النخبة السياسية والمثقفة التي عجزت أن تتجاوز عبارات الإدانة والتخوين، وتنتقل لعتبة أخرى تقدم فيها رؤاها للحل، الأمر الذي يرجعنا لمقولة الدكتور منصور خالد “النخبة وإدمان الفشل”.

أن حمدوك عندما أقدم على التوقيع كان يعلم أن الفكر وعلم الاجتماع السياسي الذي تم إنتاجه في العالم المفتوح، يقول أن السياسة هي فن تحقيق الممكن، والسياسة لا تقبل الثبات بل الحركة الفاعلة لآن المجتمع متحرك وأيضا المصالح، وكل يوم يضيف جديدا في الثقافة الديمقراطية، وأيضا كان يريد أن يكسب المجتمع الدولي في معركته السياسية، حمدوك كما قال هو لا يتعامل مع الأشياء الحدية التي تعقد المواقف، الانفتاج يجعل الشخص يفكر دون قيود ودون إملاءات من أي جهة كانت، لكن بعض القوى مصرة على فرض الشروط، الشعب السوداني مفطوم بثقافة الكارزمة وأجعلوا حمدوك كارزمة هذه المرحلة وساندوه لكي يعبر، فالرجل سوف يصبح فولتير السودان للتنوير وتحقيق الأمنيات الشعبية.

أن الديمقراطية لا تقبل فرض الشروط؛ لإنها لا ترفض المساومات السياسية، لذلك نجد أن الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غويتريس دعا السودانيين للقبول باتفاق البرهان وحمدوك وتغليب “الحسّ السليم” لضمان انتقال سلمي “إلى ديمقراطية حقيقية في السودان”، كما دعا الى دعم رئيس الوزراء عبدالله حمدوك في خطواته المقبلة، وأيضا قالت سفيرة هولندا في السودان إيرما فان ديورين “أن البرهان لم يستطع إيجاد شخص آخر لرئاسة الوزراء، وأضافت “لا أحد يريد أن يفعل ذلك، حمدوك الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة حتى عودته أراد وقف العنف، لكن الأمر صعب عليه هو وحده، يجب أن يبدأ العملية بحكومة مدنية أخرى والاستعداد لانتخابات حرة في صيف عام 2023.”

وقال سفير الاتحاد الأوروبي في السودان في لقائه لرئيس الوزراء حمدوك “أن الاتحاد الأوروبي على استعداد تقديم الدعم للحكومة السودانية في مجالات السلام والأمن والتحول الديمقراطي” وكان الاتحاد الأوروبي قد رحب مع الولايات المتحدة بعملية توقيع البيان السياسي بين حمدوك والبرهان، وهؤلاء لا يقدمون الدعم دون وعي سياسي بقضية التحول الديمقراطي، ولا يقولون ذلك بسبب حبهم لحمدوك، لكن ينطلقون من ثقافتهم الديمقراطية التي تؤسس على الحوار والتفاوض واحترام الوثائق والوصول لاتفاقات.

أن عودة حمدوك تعني الرجوع لمنطق العقل والعمل المشترك بين القوى السياسية لخلق الأرضية والبيئة التي تؤسس عليها الديمقراطية، والديمقراطية معلوم للجميع ليست هي إملاءات ولا دراسات نظرية لوحدها هي ممارسة وتفاعل يومي داخل المؤسسات وبين الأفراد وبين الأفراد والمجتمع والعالم الخارجي، الديمقراطية لا تقبل شروط لا تتوافق معها، الديمقراطية لا تؤسس على المطلق بل على النسبي، وهناك قوى سياسية لا تستطيع الخروج من المطلق. لذلك يصبح دعم حمدوك هو مناصرة للدولة المدنية الديمقراطية. كما أن حمدوك والعسكر وكل المدنيين يعلمون أن الديمقراطية صراع يومي لكن عبر الوسائل الديمقرطي وحدها. ونسأل الله حسن البصيرة.

Comments are closed.