أزمة النزاعات والصراعات القبلية في دارفور «2-3»

541

بقلم: د.التحاني سيسي محمد
إن من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها الحكومات المتعاقبة بعد أكتوبر 1964م، هي حل الإدارة الأهلية دون بديل، فقد أصدر نظام مايو في عام 1970م، قراراً بحلها وحولت إدارة النظام الأهلي وإدارة الحواكير للحكم المحلي الذي فشل فشلاً ذريعاً في الاضطلاع بهذه المهام، وكانت النتيجة الطبيعية لذلك انفراط عقد الأمن وزعزعة السلم الاجتماعي، وازدياد وتيرة الاستقطابات والنزاعات القبلية الدامية.

وأسوأ تلك الخطايا كانت عندما استغلت حكومة الإنقاذ، اضمحلال وضعف قانون سلطة الإدارة الأهلية بعد إعادتها في عام 1988م، واتبعت ذلك بنزع أهم سمة من سماتها وهي الموروث الذي كان يحكم وينظم اختيار رجل الإدارة الأهلية، ففرضت التعيين والعزل والذي كان مدخله التسييس، وقامت بتعيين إدارات أهلية موازية للإدارة الأهلية التقليدية، واتسمت بعض تعيينات الإدارات الموازية من النشطاء السياسيين الذين كانوا يؤدون مهاماً تداخلت مع مهام الإدارة الأهلية التقليدية، مما أدى إلى تقويض دورها.

وبإضعاف دور الإدارة الأهلية بدأت بعض القيادات السياسية الوسيطة وقيادات المليشيات القبلية تتولى قيادة المجتمعات الأهلية في دارفور، وكانت بعض هذه المجموعات تقوم تحت ستار الروابط القبلية بتحريض القبائل، وإذكاء نيران الفتنة بينها، وتجمع الأموال وتقدم الدعم اللوجستي للأطراف المتصارعة.

لم يقف الأمر عند إضعاف الإدارة الأهلية، بل تجاوزه إلى تجريدها من قيمتها الاجتماعية واحترامها، وصوبت الحكومة كل سياساتها عبر ولاة الولايات لمزيد من الإضعاف لها، وسعت وعملت على إنشاء إدارات جديدة، وألقاب توزع لمجموعات وقيادات مكونات قبائل لا أرض لها لتمارس سلطتها عليها، وأضحت لها سطوة وصيت في تقرير شأن الإدارات المتوارثة، بل عمدت لتقسيم الحواكير، وإقامة مسميات إدارية فيها، لا تخضع لسلطات الشرتاي، أو الملك، أو السلطان، أو الناظر، فاختلت الأمور.

وأسوأ ما في ذلك أن هذه الإدارات ومسمياتها وقياداتها لا رابط لها أو بينها والقبائل التي بينها تعاهدات ومواثيق تنظم علاقاتها البينية في تسوية وفض النزاعات الأهلية، بل إن هذه السياسات كانت سبباً مباشراً ضمن عدة أسباب أخرى قادت لاندلاع الحرب وتفاقمها بدارفور. ولعل من نافلة القول إن الإدارات الأهلية الراسخة منذ عهد السلاطين وما بعدها الاستعمار وصولاً للحكم الوطني قبيل الإنقاذ كانت علاقاتها متينة، وإن حدثت لها بعض الاختلالات، لكنها تجمع على أن السياسات التي اختطتها حكومة الإنقاذ كانت خاطئة.

من العسير لأي باحث في الشأن الدارفوري أن يتجاوز التدخلات السالبة للحكومات المركزية المتعاقبة على حكم السُّودان في دارفور، والتي بدورها فاقمت الوضع الأمني، وأحدثت المزيد من التشظي في المجتمع الدارفوري، وسِلمِه الاجتماعي. فرغم التباين القبلي والاثني ظل إقليم دارفور يتميز بالتعايش السلمي بين مكوناته الاجتماعية عبر التاريخ، الذي لعبت فيها الإدارة الأهلية دوراً أساسياً في صيانة أمن وسلامة المجتمع، وفق الأعراف والقيم والتقاليد.

وعند حل الإدارة الأهلية تزعزع الوضع الأمني في ربوع دارفور، وفشلت هياكل الحكم المحلي من ملء الفراغ الذي خلفه حل الإدارة الأهلية، ثم صدر قانون الحكم الشعبي المحلي في عام 1971م، وكان له الدور الأكبر في تفجر وتحريك النزاعات بين المكونات الاجتماعية في دارفور. يجدر بالذكر أن مديرية دارفور (دارفور الكبرى) التي كانت تشتمل على ثمانية مجالس ريفية، قد تم إعادة تقسيمها في بداية السبعينيات إلى محافظتين، شمال دارفور وعاصمتها الفاشر وجنوب دارفور وعاصمتها نيالا.

أعاد قانون الحكم الشعبي المحلي تقسيم المجالس المحلية، وتم أنشأ 13 مجلس منطقة، ومئات المجالس المحلية، بل الأخطر من ذلك أن هذا القانون أعاد تقسيم الحدود الإدارية للمجالس المحلية، وبالتالي أحدث تغييراً في حدود بعض الحواكير، مما أدى إلى بروز نزاعات حدودية بين هذه المجالس المحلية، سرعان ما تحولت إلى صراعات قبلية دامية.

في عام 1980م، صدر قانون الحكم الإقليمي الذي أُنشأ بموجبه إقليم دارفور بمحافظتين، شمال وجنوب دارفور، وفي فبراير عام 1994م، تم إعادة تقسيم أقاليم السودان، باستثناء الخرطوم وذلك بإضافة 26 ولاية جديدة، وطبقاً لذلك قسمت دارفور إلى ثلاثة ولايات، ولاية شمال دارفور، ولاية غرب دارفور وولاية جنوب دارفور. لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل تم إضافة ولايتين جديدتين عند إعادة تقسيم ولايتي غرب وجنوب دارفور في عام 2011م، فأصبح الإقليم يتكون من خمس ولايات و64 محلية.

كانت لهذه التقسيمات الإدارية تبعات سالبة على الحدود الجغرافية بين الولايات، وبين المحليات في الولاية الواحدة، ساهمت في إذكاء نيران الفتن بين المكونات الاجتماعية بدارفور، بالإضافة إلى ذلك، ورغم معارضة أهل دارفور إلا أن تقسيم دارفور لكيانات صغيرة تسبب في إضعاف وحدة أبنائها، وأدى إلى نماء النعرات الإثنية والقبلية بين أبناء الإقليم الواحد، خاصة وأن التقسيم كان على أساس قبلي، وأن الذي حدث يؤكد أنه لم يستند على معايير ومرتكزات أساسية منها الجغرافيا والتداخل القبلي وطبيعة الموارد واستخدامات الأرض ووسائل كسب العيش والخلفية الاجتماعية لمكونات أهل دارفور.

يجدر بالذكر أن مكونات دارفور الاجتماعية بانتماءاتها العرقية المختلفة ظلت تعيش في وئام حتى مطلع السبعينيات، ولم تشهد صراعات بينية ذات بعد عرقي ما عدا بعض النزاعات إما حول الحدود الإدارية، أو نزاعات لها علاقة بترتيب أوضاع مجموعات قبلية صغيرة داخل الحواكير الموروثة والمقننة في إطار التعايش بين مكونات ذات ارتباط تاريخي، أو وافدة حديثاً.

لقد اتسمت العلاقات بين مكونات المجتمعات القبلية بالمتانة وتنظمها عهود ومواثيق تنظم علاقاتها البينية والانتفاع من مواردها الطبيعية في إطار استخداماتهم وفق احتياجاتهم المحدودة، خاصة بين الرعاة والمزارعين، والتزام هذه المكونات بالأعراف والتقاليد في معاملاتهم التي تحرسها وتديرها حكمة وقوة قيادات إداراتها الأهلية، وعمق تواصلها وتبادل الزيارات بينهما، ولقاءاتها السنوية التفاكرية فيما كان يعرف بالزفة أو تنصيب أحد قادتها، وشكلت هذه الزيارات إحدى السمات الأساسية لتقوية أواصر العلاقات بين مكونات دارفور المجتمعية.

ازدادت هجرات القبائل بما فيها العربية من غرب إفريقيا إلى دارفور في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهنا لابد من الإشارة إلى أن أسباباً عديدة جعلت من دارفور قبلة للهجرة غير الشرعية والنزوح واللجوء، منها حكامة التدابير والإجراءات الإدارية والأمنية التي جعلت من التعايش السلمي نموذجاً لاستتباب الأمن والسلم في ربوعها، ورخاء العيش وتوفر الاحتياجات والمتطلبات الحياتية، ولو أنها كانت بحدها الأدنى، وتعظيم التكافل الاجتماعي بين مكوناتها، بجانب توفر فرص العمل والكسب للجميع دون استثناء بالإضافة إلى تقبل الآخر والترحيب به واحترام حق الاستجارة والاستضافة.

تمكن أهل دارفور بمختلف انتماءاتهم العرقية وعبر تاريخهم الطويل من بناء نسيج اجتماعي متجانس ومتماسك، وظل أبناء دارفور على مر التاريخ متوحدين حول قضاياهم المصيرية، دون اعتبار لقبيلة أو إثنية، وظل المجتمع مترابطاً، وعلى هذا النهج عارضوا قرار الرئيس نميري بضم دارفور إلى كردفان، وساروا على نفس الدرب بمقاومة قراره بفرض حاكم لدارفور من خارج أبنائه، وقاموا في عام 1983م، بانتفاضة فرضوا فيها السَّيد أحمد إبراهيم دريج حاكماً على دارفور.

ولكن سرعان ما تبدل الحال عندما بدأت بعض التكتلات السياسية والإثنية والقبلية تطفو على السطح، وبدأت النخب الدارفورية تستخدم البعد الإثني والقبلي في مساعيها لتسنم المواقع السياسية، وانقسم اهل دارفور نتيجة لذلك إلى كتلتين، مجموعة أطلقت على نفسها بالتجمع العربي وقامت بنشر خطاب موجه للسيد الصادق المهدي، رئيس مجلس الوزراء ومجموعة أخرى سميت بالزرقة وبهذا الفهم وضعت اللبنة الأولى لتعريف أهل دارفور على أسس إثنية، وشجعت على تحقيق المصالح الإثنية، وإعادة ترتيب التحالفات القبلية على ذات الأسس.

Comments are closed.