الزين صالح يكتب: القوى المدنية صراع بين عقليتين

187

بقلم: زين العابدين صالح عبدالرحمن
أن التضحيات التي يقدمها شباب الثورة في ساحات النضال من أجل (الدولة المدنية) يبين مدى اتضاح الرؤية عند شباب الثورة، وأيضا يتضح ذلك في الشعارات التي يقدمونها بعيدا عن الشعارات الحزبية المدسوسة، أن شباب الثورة ينطلقون من منصة قومية بعيدا عن التحزب والمناطقية والعشائرية، فكانت شعاراتهم قليلة تجسد رؤيتهم في (الدولة المدنية الديمقراطية) التي لا يمكن أن تؤسس إلا على التوافق الوطني.

يصطحب معه كل المكونات الاجتماعية التي تشكل التنوع الثقافي في البلاد، تنطلق من مباديء وقيم فاضلة (حرية – سلام وعدالة)، هذه القيم ليست قاصرة على إطارات مغلقة بل هي فضاءات مفتوحة يتفاعل معها أصحاب الخيالات الواسعة، لأنها تؤسس على الإبداع. هو العقل الجديد الذي يريد أن يفارق العقل القديم الذي وصم بالفشل والعجز. والبلد في حاجة لعقول تستند على المعرفة والوعي بقضايا الوطن ومشاكله، والديمقراطية تفتح قنوات الإبداع لكل مصادر التنوع الثقافي.

قبل الدخول في الحديث عن الانقلاب، والسلطة العسكرية الحاكمة في البلاد، يجب الحديث عن صراع العقليتين؛ وإذا لم تتم الإشارة في الحديث للعسكر، سوف يتهم الشخص من قبل اصحاب العقول التقليدية بمناصرة العسكر والكوزنة، ويعود ذلك؛ لآن العقل التقليدي بني ثقافته السياسية على الاتهام، لعدم أمتلاكه لأدوات النقد الممنهج. والغريب لهذا الأمر؛ هو العقل السائد وسط أغلبية المثقفين.

أن معالجة البناء المدني الذي يشهد صراعا حادا خفيا بين رؤيتين متعارضتين يحتاج لنقد لكي يفسح الطريق للعقل الجديد الذي يعتمد على الشغل الذهني، والعقل الجديد لا يصارع عقل نداً له بل عقلية محكومة بعادات و تقاليد وإرث ثقافي يشكل عائقا لعملية الإصلاح داخل المجتمع، وأيضا يواجه قوى محافظة عريضة.

الرؤية الأولى في الصراع، هي رؤية العقل التقليدي، هي رؤية تقليدية تتحكم في قيادات الأحزاب السياسية يسارية ووسطية ويمينية، وهؤلاء يشتغلون السياسة من خلال التركيز على التكتيك والمراوغة، ليس لهم رؤية واضحة على كيفية بناء الدولة، ولذلك يستعينون بالشعارات في أطروحاتهم السياسية، لأنهم عاجزون عن اعمال الفكر في إنتاج مشروعا سياسيا مفصلا واضحا يحاسبون عليه.

هي الرؤية التي أطلق عليها الدكتور قرنق (السودان القديم) لأنها محصورة في ثقافة لا تستطيع أن تخرج عن حديث السيادة ونقاء العنصر وتنظر للأشياء بعين واحدة، لذلك حصرت نفسها في دائرة السلطة وكيفية الوصول إليها والحفاظ عليها.

هذه العقلية هي عقلية تحمل كل جينات الفشل، لأنها تنطلق من فكرة الاستحواذ على السلطة لبناء مصالحها الذاتية والمجتمعية، وعندما تصل للسلطة تبدأ عملية المراوغة لكي تطيل الفكرة، ولا تستطيع أن تخرج عن أزمتها، لأنها لا تملك منهجا ولا أدوات نقد تنقد بها تجربتها في الحكم وتقييمها، تميل للتبرير دائما، هذا العقل ظل يتحكم على المشهد السياسي منذ الاستقلال ويتنقل بين كل المكونات السياسية، مثالا ما يسمى بالإدارات الأهلية والطرق الصوفية، هؤلاء ينظرون للقضية من خلال تحقيق مصالحهم لذلك يميلون للذين يكونون في السلطة ليس لهم غرض في عملية التحول الديمقراطي.

هذا العقل لابد أن يحاصر ويتراجع، والصراع الحاد الآن في البلاد هو بداية الحصار لهذا العقل. وإذا كان يتمظهر الآن في العسكر لكن له امتدادات واسعة في المجتمع والخطورة أنه متمركز في قوى سياسية، لذلك الثورة ليست سياسية فقط بل هي ثورة سياسية، اجتماعية، ثقافية.

الرؤية الثانية في الصراع، العقل الحديث المفتوح، هو عقل جديد في العمل السياسي تسلح بالانفتاح على الفكر الإنساني، لم يحصر نفسه في فكر معين، انطلق من منصة القومية للبناء الوطني لذلك جاء بشعار “يا عنصري يا مغرور كل البلد دارفور” أنطلق من الديمقراطي الاجتماعي والتكافل عندما قال “عندك خت ما عندك شيل” أستخدم كل أدوات السياسة والفنون وأدابها من أجل أن يوصل رسالته، ظهر العقل بقوة داخل ساحة الاعتصام في الجداريات في الموسيقى في الشعر، لذلك لم يكن أمام العقل التقليدي غير فض ساحة الاعتصام بهذه القسوة والبطش والقوة، لكي توقف إنتاج هذا العقل.

عقل ينتقل من التورية والمجاز إلي المباشر في النقد والحديث عن الإصلاح من خلال “منهج نقدي” لم يقبله العقل التقليدي؛ لأنه لا يستطيع أن يجاري هذا الخطاب الجديد، خطاب يفضح القضايا ويجعلها على مائدة الحوار الجماهيري، والعقل القديم ما يزال متمسكا بأسلوب المراوغة والمناورة ولا يستطيع تجاوزهما.

عقل لا يستطيع أن يستخدم غير هاتين الآداتين. لذلك عندما نزلت قيادات “قحت للشارع” لم يتعامل معها بذات اللغة التي تفهمها المناورة والمراوغة. بل تعامل معها بالحديث المباشر ورفض تواجدهما معا، وحملها مسؤولة انتكاسة الثورة، والفعل ليس بهدف الإقصاء لكن بهدف المواجهة والمحاسبة، وهي أدوات الديمقراطية.

لذلك شباب المقاومة لا يصارعون العسكر وحدهم في المواكب التي يسيرونها، يصارعون العقل التقليدي في كل مكونات مؤسسات المجتمع والدولة، لأنه عقل لا يمكن الاعتماد عليه في عملية التحول الديمقراطي. عقل بعد سقوط البشير مباشرة لجأ للسلطة قبل التفكير أن يكون له مشروع لبناء الدولة الديمقراطية، ومعروف أن السلطة ساحة للصراع وتتغير فيها المواقف تبعا للمصالح، لذلك دعاتها يفشلون في عملية التحول الديمقراطي لأنها تناقض مصالحهم.

أن العسكر في هذه المعركة؛ يحاربون من منصة العقل التقليدي، والذي يتخذ من السلطة أداة لتحقيق مكاسب ومصالح ضيقة، وهو عقل يحاول أن يستنهض كل القوى الي تملك الإرث السياسي التقليدي، وأتخذت من الدولة ثدي لكي ترضع منه، والعسكر لا يستخدمون أدوات السياسيين بل أدواتهم هي السلاح والقمع، لذلك كان القتل والبطش مجسدا في أفعالهم.

والخطأ كان من القوى المدنية، التي جعلتهم شركاء في الفترة الانتقالية، ووقعت معهم الوثيقة الدستورية، وأختلفوا داخل السلطة ليس بسبب قضية التحول الديمقراطية، وتكوين المؤسسات الداعمة له، لكن أيضا في صراع السلطة من يكون رئيسا للمجلس السيادي في الفترة القادمة. والسلطة صراعها لا ينتهي في ظل المتغيرات المستمرة في توازن القوى.

فهل يعتقد الكل؛ كان يجب على العسكر أن يستخدمون أدوات السياسية أم الأدوات التي تعودوا عليها في الحسم؟ الإجابة سوف يستخدمون سلاحهم في الصراع، لذلك حدوث انقلاب في ظل الصراع مع العسكر يجب أن يكون متوقعا، والمحافظة على الانقلاب ايضا سوف يتوقع أن يستخدموا العنف المفرط.

أن العقل الجديد في الساحة تمثله (لجان المقاومة) بكل فروعها، وهي التي صنعت هذا الواقع الجديد في البلاد، وقدمت له التضحيات المستحقة، وهؤلاء يجب مساندتهم والعمل من أجل وحدتهم، ومنع كل محاولات القوى السياسية لإحداث أختراقات في جدران بنائهم، هؤلاء يعتمدون على طريقة جديدة في التعامل مع الشأن السياسي يؤسس على العقل المفتوح الذي ينطلق من قاعدة معرفية واسعة، ومنهج يلائم الشعارات المرفوعة. وتقديم رؤى واضحة لكيفية بناء الدولة السودانية على الديمقراطية.

وهذا التحول يحتاج إلي أدوات متعددة وفاعلة وخيال واسع لا تحده حدود وقدرات عالية في الإبداع، هذه أدوات لا يعرف العقل التقليدي التعامل معها. هو عقل ذو بعد واحد (السلطة) وكل مجهوداته موجهة للفكرة.

العقل الجديد يريد تسخير كل الأدوات الفاعلة في المجتمع لكي تكون جزء من عملية البناء، فالمعركة ليست ميسرة هي معركة بسبب خلافات الرؤى والمصالح. وعملية التحول الديمقراطي تحتاج أن يترك الجميع مصالحهم وراء ظهرهم ويتفرغون لها بالوطنية العالية المجسدة في هؤلاء الشباب. أن معركة سودان المستقبل هذه هي بدايتها، وحتما سوف ينتصر العقل الجديد. نسأل الله التوفيق.

Comments are closed.