على قهوة الأميرة.. كان ياما كان

119

بقلم: كامل عبدالله كامل
دائماً ما يصاب صباحي بقليل من الكسل، أداعب في خيالي بعض مهامي اليومية بوهن، أعتزل اغماضتي المتعمدة وأواصل في أداء طقوسي المحفوظة حتى لانتعاشتي وأنا أرش الماء الفاتر على وجهي.

أول ما تتفتح عيناي على رسمي في المرآة، خطوط من الشيب انطلقت كموعد غرامي لإحدي الصبايا اليافعات، وانحسار لشعر الرأس بطريقة عشوائية، فشلت محاولاتي في ستر عورتها.

وتجاعيد على هيئة خطوط مصرورة بإحكام، نهاية طرف الجفن تنبؤني أني في وحل الأربعين، أخاف من سن الأربعين.

والدي توفي وهو في بداية الخمسين، وكلما إقتربت منها، أضم ذكرياتي لصدري كأم لهوف على صغارها، وأنكث غزل أيامي، وأنثرها كتابلوه للوحة عجز الرسام عن إكمالها.

النصف او أدنى بقليل من غرس سنيني، بذرته لسابلة الغربة، إلتقيت بالناس من كل الأجناس، عقدت الصداقات، أصبت ببعض الخيبات، هي مشرورة على حبل صلابتي.

صديقي مجتبى قريشي من بلاد السند، أخبرني في نبوءة له آن ونس لذيذ في أحدى نهارات جدة الفاحشة الحرارة، وما زلت أقتات على صدى أوهامها.

أنني طريد من صلب جذوة المنافي المتقدة في سنيني، لن أضع للترحال عصاً، فقط أتوكأ على حنين غامض، كان ذلك عندما أخبرته بنيتي ان أقيم بأرض مصر.

أتيتها كمستقر مؤقت، صوب هجرة لا أعرف كيف ستنتهي ولا الي أين؟ كلما أعرفه أنني راكب الي واحدة من محطات الحياة، كل حيلتي ذكريات متواضعة عن عبق الأماكن وثلة من الأصفياء، وبأن كل الأرض للانسان، يفلح من خصب فرصها ما يتسع لأحلامه، إبنة صحوه كانت أو غفوة من أضغاث خيالاته.

أتعجل خروجي بعد ترتيب ملامحي، أعدل ياقة القميص، قليل من العطر، جلبه لي صديقي أسامة في آخر أوباته، أفرك به يدي الاثنتان، وامسح به ما ظهر من مسامي، وساعة من ماركة سواتش كنت أظنها أصلية، لكنها إحدى مغامرات أخي الأصغر قصي، والتي ما أن تموت واحدة منها حتي يوقظ ما ينوء بصدر ترقبي.

حاولت سرقتها منه، فأهداني إياها، ما ادخل الريبة في توقعاتي، المشوبة بالحذر من جانبي ، سعدت بها في حينها، وتفاجأت عندما أسرعت الي احد المتاجر لأعرف أسباب توقفها، ليقضي البائع على آخر رمق ثقة كنت احتفظ به لقصي.

أسير بخطوات محفوظة حتي لرمل الطريق صوب قهوة الأميرة، تقع على ناصية شارع لاشين المكتظ بالحياة، الكراسي مرصوصة بانتظام، الناس يتحلقون حول أكواب الشاي وأقداح القهوة، سحنات مختلفة وهيئات متباينة.

أجلس في مكان محفوظ ليأتي بعدها النادل وليد أو أبو أبانوب كما أكنيه وأناديه، يسألني بإلفته التي تسكن ملامحه المريحة عن قهوتي التي أحتسيها، “على الريحة” والتي تعنى في عرفهم خيط رفيع من السكر.

يأتي بالقهوة يفوح منها سحر البن والذي أظنه كسر الروح، لا أجد له تفسيراً، وما أن أحتسي قليلاً من وجهها ذو القوام السميك، حتي تعود إلىّ ذاكرتي كجهاز حاسوب معطوب، داعبته أنامل مختص بارع فعاد الي العمل.

لحظات مدروسة، ويأتي نادل الإرجيلة بجسده النحيل ، وابتسامته التي يبرز لها حتى آخر ضرس عقل بائس علق في آخر صف أسنانه المرصوصة بركاكة، لا أعرف أسمه، لكني سمعت الجميع يناديه “بيبو” فأغرقت اللقب بمزيد من الألفة، قابلها بكم معتبر من خفة روحه.

بيبو عبارة عن وكالة أنباء ويعد مصدري الموثوق لفهم طبيعة الناس هنا والأشياء، الخبر ينتقل لرواد المقهى، عند تغييره لفحم رقد كجثة هامدة على سفح حجر الفخار، فينعش التبغ بمزيد من الجمر المشتعل، لأنفث بعضا من همومي المتراكمة، على وسادة يومي، وللترويج لبضاعة المقهى من الشاي والقهوة، وبعض العصائر، المخلوطة بفلذات الفاكهة، وأكباد الزبادي، يقنعني بكوب من التين، المضاف اليه عافية التمر المباحة، فيسد شهيتي عن تناول الطعام.

أنهض بعدها لمقابلة عدة ورطات مني، لسذاجتي أو لطيبة ابن النيل، أحاول فيها ان أكون مثالياً، وبأخلاق شيخ قبيلة او احدي العمد في سهل البطانة الرحيب، لكن لا فائدة، الجميع حولي، يمارسون الفهلوة، لتحقيق المكاسب، وانا بين مطرقة المبادئ، وسندان أكل العيش الرهيب.

تعدوا الأيام، وتتكاثر الأحلام، وانا طريد الا من رحمة دفئ أسرتي الصغيرة، ضحكة بنات أفكار كريم الصغيرة، أو مقلب محكم أنصبه لحيلتي من جنس البنات ” رهف الصبية”، أو سِنة تفكير في احدي ومضات عبدالله المثالي، المحتفظ بحلمه الكبير ان يكون أحد فلتات كرة القدم..

Comments are closed.