الزين صالح يكتب : أمريكا و الصراع السياسي في السودان
بقلم : زين العابدين صالح عبد الرحمن
تحاول الولايات المتحدة إرجاع عقارب الساعة لفترة خمسينيات و ستينيات القرن الماضي، و لكنها لا تريد أن ترجع الزمن الماضي بكلحمولاته. فكانت الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة تراهن على السودان على أن يلعب دورا متقدما في صراع الحرب الباردة، بأن يقلقكل الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها الفكر الماركسي إلي أفريقيا، و أيضا أن تخلق معادلة سياسية داخل السودان بنمو تيار ديمقراطييمثل شعاع الوعي الديمقراطي لمنطقة الشرق الأوسط، خاصة في تلك الفترة التي كانت تنشط فيها حركات التحرر الوطني في أفريقيا، وعدد من دول الشرق الأوسط، الأمر الذي خلق قوى من النخب السياسية في تلك المناطق مؤيدة لسياسة الاتحاد السوفيتي، في اعتقاد إنهاسياسة مؤيدة لتحرير الشعوب من الاستعمار، و أيضا كانت فترة نمو و تصاعد للتيارات القومية العربية، و االسودان أيضا كان من المتأثرينبهذه الأفكار، الأمر الذي خلق قوى معارضة وسط النخبة السياسية رفضت المعونة الأمريكية، حتى جاء انقلاب عبود الذي أحيا هذه المعونة وقبلها و لكنها كانت في حدود ضيقة.
في عام 1995م في القاهرة: حضرت لقاءا حواريا ضم شخصيات أمريكية بارزة من السفارة الأمريكية في القاهرة و رئيس قسم الدراساتالأفريقية في الجامعة الأمريكية، و مسؤولة البرامج الثقافية في مؤسسة فورد فاونديشن ” Ford Foundation” تناولت الجلسة قضاياالثقافة في السودان ثم عرجت الي السياسة، كانت الرؤية الغالبة في الحوار عند الأمريكيين، أن الحزبين الاتحادي و الأمة رغم اتساعقاعدتهما الاجتماعية و رفعهما لشعارات الديمقراطية، لكن قوة الحزبين لا ترق إلي المعارضة الفاعلة ضد نظام الإنقاذ، و لا ترى الجماهيرهناك فارقا كبيرا بين الثلاثة، و اعتماد الحركة الشعبية لتحرير السودان على السلاح لا يؤهلها كقوى سياسية تستطيع أن تحدث واقعاسياسيا جديدا مناصرا لقضية الديمقراطية، هذا الواقع في مصلحة التيار الإسلامي، حتى يخلق الواقع السياسي قوى جديدة تحدثتحديا حقيقيا للحركة الإسلامية يجعلها تغير من تكتيكاتها، و هذه القوى الجديدة لا تستطيع أن تحدث تغييرا لمصلحة الديمقراطية، إذا لمتستطيع أن تخلق قوى مؤيدة لرؤيتها من داخل الإسلاميين أنفسهم. و كانوا مجمعين أن أبعاد الإسلاميين من المشهد السياسي كاملا سوفيعطل أي مشروع لعملية التحول الديمقراطي، و هذه الرؤية تعتمد على أن القوى التقليدية فشلت في الحفاظ على النظم الديمقراطية، و لمتستطيع أن تخلق تحديا للمؤسسة العسكرية تمنعها من الفعل السياسي.
استطاعت المؤسسات الأمريكية الرسمية و حتى مراكز الدراسات و البحوث، أن تكون مساندة لعملية التحول الديمقراطي، و كانت تسعىلخلخلة نظام الإنقاذ، و تجبره أن يغير سياسته الضاغطة على القوى السياسية، و أن يوسع من دائرة الحريات، بهدف السماح لخلق بيئةمؤاتية لبروز قوى جديدة تخلق التوازن مع الإسلاميين، و هي التي تقود عملية التحول الديمقراطي. أن ثورة ديسمبر التي اندلعت منالمواطنين في الشارع بعيدا عن اسوار الأحزاب، هي التي خلقت الواقع الجديد في الساحة السياسية السودانية، الذي مهد الطريق لعمليةالتحول الديمقراطي، لذلك أيدت الولايات المتحدة الثورة و شكلت حضورا كبيرا في ساحة الاعتصام، على أمل أن الواقع ينتج فكرا مغايرا عنالأفكار السابقة المنتشرة داخل المؤسسات السياسية، و التي كانت داعمة لصناعة النظم الشمولية، فالواقع الجديد الذي بدأ يتخلق عندالأجيال الجديدة، و أيضا الذي أحدث تغييرا لميزان القوى في مصلحة الشارع الجديد، هو الذي جعل الولايات تصر على دعمه، و عندما وقعانقلاب 25 أكتوبر، أدانته الولايات المتحدة، و طالبت بالرجوع للشراكة وفقا للوثيقة الدستورية.
أن ثورة ديسمبر جاءت بقوى جديدة للمعلب السياسي، خاصة أن القوى الجديدة ضمت نخبة جديدة من الحزبين التاريخيين، الأمة والاتحادي الديمقراطي، و هي قيادات جديدة تستند لتاريخ الحزبين لكن لديها تصورات جديدة مناصرة بقوى لعملية التحول الديمقراطي،إلي جانب نمو تيارات جديدة بدأت تشغل مساحة كبيرة في الساحة السياسية. الأمر الذي جعل الولايات المتحدة مؤيدة لهذه التياراتالجديدة. و عقب الانقلاب؛ عندما رفعت الولايات تمثيلها الدبلوماسي إلي درجة السفير، لم يكن الهدف منه تأييدا للانقلاب، و لكن الهدفمساندة عملية التحول الديمقراطي، و الوقوف مع القوى التي تعتقدها قوى ديمقراطية جديدة، أن الولايات المتحدة مارست ضغوطا كبيرة علىكل الجوانب المشاركة في الفعل السياسي، من أجل تعديل المسار لكي يصبح ملائما لعملية التحول الديمقراطي، إلي جانب الخروج منالأزمة السياسية، و حتى فكرة توسيع قاعدة المشاركة هي من بنات أفكارها، باعتبار أن الديمقراطية تحتاج إلي قوى اجتماعية عريضةمؤيدة لعملية التحول الديمقراطي، و كانت أيضا حريصة لمشاركة ما تسميهم التيارات المعتدلة منها بعض الإسلاميين، باعتبار هؤلاء سوفيكونوا سدا أمام التيارات الريديكالية الأخرى المناهضة لعملية التحول الديمقراطي. و أيضا هم مقتنعون أن الزملاء في الحزب الشيوعيغير مؤهلين للعب أي دور إيجابي في عملية التحول الديمقراطي الآن، باعتبار أن تاريخ الشيوعيون في العالم يفضلون الوقوف في منصةالمعارضة. و إذا أيدوا يكون تأييدهم تكتيكيا لمساندة عملية التحول الديمقراطي، و هو موقف أفضل لهم، لأنها سوف تجعلهم في وضعمعارض أفضل تمنحهم مساحات واسعة من الحركة يكفلها لهم الدستور.
أن التحرك الجديد لعناصر النظام السابق، و بعض العناصر من الإسلاميين، تؤكد أنهم مستوعبين للعملية السياسية الجارية الآن، و لذلكيريدوا أن يؤكدوا أنهم قوى سياسية لا يمكن تجاوزها، و بالتالي قادرين على التأثير المباشر في شل قدرات القوى الجديدة، و كانت الخطوةلإرجاع شرعية للنقابات السابقة، و التي كانت في فترة الانقاذ، الهدف منها شل قدرات القوى الجديدة، و انتزاع كل أدواتها التي تمارس منخلالها عملا سياسيا مثل ” تجمعات المهنيين” و كسب هذه التنظيمات لصالحهم، و جعلها أزرع تستطيع أن تؤثر سلبا في أي سلطة جديدةتتجاوزهم في صناعة واقع ديمقراطي جديد، و أيضا أن تجعل كل الذين تعتقد أنهم يمثلون أدوات تفكير للقوى الجديدة، أن يكون عملهم فيالفترة القادمة هو الدفاع عن شرعية من خلال مجادلات منصات القضاء، مما يشل قدرتهم في التفكير في خطوات متقدمة في العمليةالسياسية. و هؤلاء على قناعة أن سلطتهم لن تعود مرة أخرى لأسباب عديدة لكنهم يريدون أن يعودوا للساحة السياسية من خلال تسويةتؤكد على وجودهم.
معلوم؛ أن أي تغيير في ميزان القوى في أي مجتمع سوف يخلق واقعا سياسيا جديدا، و هذا الواقع الجديد سوف يغير كل شروط اللعبةالقديمة، و يأتي بشروط جديدة تكون أكثر مرونة من سابقتها، و هو الرهان الذي تعتمد عليه عناصر النظام السابق أن تحدث تغييرا علىميزان القوى لكي يسمح لها بالتواجد في الساحة السياسية، و هي بهذا الفعل تريد أن تؤثر على ما تسميهم بالقوى المحركة للواقع الجنتين( الثلاثية و الرباعية) في اعتقاد هم الذين يحركون الفعل السياسي. و لذلك يتفننون في عملية المناورة و التكتيك، من خلال الانتقال من حدثلأخر الهدف منه شل التفكير عند الآخرين، و شل التفكير هو العجز في التعاطي مع المشكل بالصورة التي تجل صاحبها قادر على طرحبدائل تجعله هو الذي يفرض شروط اللعبة السياسية. لذلك الدول الديمقراطية تكثر من عمل الورش المساعدة في دعم عملية التحولالديمقراطي و إدارة الصراع و التفاوض. و الصراع نفسه سوف ينتج ثقافة جديدة داعمة للعملية الديمقراطية. و نسأل الله حسن البصيرة.
Comments are closed.