حكاية من حلتنا يكتبها آدم تبن: (أمسك الرقعة)

68

يفرد الشارع السودانى لنفسه مفردات لغوية فى غاية الدهشة والإمتاع، فمن يألفون هذه المفردات اللغوية غير معروفين فقط يطلقونها ككلمات لها وقع على السمع أو لها جرس موسيقى يجعلها تستقر فى آذان الناس ويحفظونها ويتداولونها بينهم ورويدا رويدا تبدو ككلمات متعارف عليها لاتحتاج إلى تفسير من قائلها، فهنالك العشرات من هذه الكلمات التى أصبحت مألوفة عند السامعين رغما عن غرابتها إلا أنها وجدت حظها فى الزيوع والانتشار بين الناس.

وحكاية من حلتنا فى حلها وترحالها تمر بها كلمات وكلمات تعيدها كأحد الذكريات التى لا تنقضى حكاياتها ففى الطريق العام والأسواق والمناسبات تصادفك مثل هذه المفردات اللغوية التى تفنن فى تركيبها أحد عامة الناس فى مجتمعنا الزاخر بمثل هؤلاء الناس، فكلمة أمسك الرقعة وقعت على أذنى وكنت يومها أستقل أحد وسائل النقل العام فى طريقى الى المنزل بعد يوم شاق قضيته فى العمل ، ومن خلال الحديث إكتشفت أن من قالها يريد بها معنى آخر غير الذى كنت أعرفه منذ زمان بعيد، فعندما أطلق كلمة أمسك الرقعة جالت بذكرياتى رقعة الدلو أو رقعة الزرع أو رقعة الحديد أو رقعة الأنبوب، وهى كلمات كانت محفوظة فى الذاكرة لكن هذه الرقعة أخذت منحى آخر حيث أراد صاحبها معنى آخر وهو يقصد بها إستلام المال أو القروش، فعندها قلت لنفسى يبدو أنك (دقة قديمة) فات عليك فهم مثل هذه التعبيرات والمفردات الحديثة التى تتغير من وقت لوقت، فهى غير ثابته ومقترحوها تتفجر قرائحهم الإبداعية فينتجون كلمات وعبارات لحظية تسير بها الركبان ثم لاتلبث أن تختفى لتظهر عبارات ومفردات غيرها تستمر إلى أن تندثر وتتلاشى.

وقد أعادت كلمة (أمسك الرقعة) كما قلت أعادت الذاكرة سريعا إلى أهل الريف الذين يستخدمونها فى مواضيع كثيرة فمثلا يقولون لك (عايز أرقع الدلو) والدلو هو إناء مصنوع من الجلد الحيوانى يستخدم لجلب الماء من الآبار، والرقعة تعنى أن الدلو يحتاج إلى رقعة فى منطقة معينة لإصلاح الثقب الذى أصابه ويجعل الماء يتدفق منه وعندما يخرج من داخل البئر يكون قد فقد كثيرا من الماء الذى بداخله والغريبة يرقع من نفس مادته وهى جلد الحيوان ويخاط بالخيط والإبرة بطريقة فنية يدوية ماهرة حتى لا يترك مجالا للمياه أن تتسرب من داخله.

وتستعمل كذلك كلمة رقعة لرقع الملابس والأحذية فترقع لإصلاح الثقوب التى ظهرت فيها لتغطيتها وتحسين مظهرها والراقع للملابس يعرف ب(الترزى أو الخياط) أما الراقع للاحذية فيسمى (النقلتى) وتستعمل كذلك كلمة الرقعة لرقع الزراعة أى عندما تنبت المحاصيل الزراعية فى بداية موسم الخريف تظهر فراغات بين الحفرة والأخرى وتحتاج إلى ترقيع من صاحب المزرعة فيسمونها رقعة الزراعة بمعنى أن المزارع يحمل قليلا من بذور المحصول المزوع ويبدأ فى ترقيع تلك الفراغات التى لم تنبت فيها بذور، وهكذا تعرف الرقعة الزراعية عند أهل الزراعة. أما أصحاب العربات فعندما يقل هواء أحد اللساتك أو ينفس هواء فيذهبون به إلى صاحب البنشر فيقول له (أرقع اللستك) بمعنى أعد إصلاحه مرة أخرى برقع الثقب الداخلى الذى أصاب (الأنبوب) أو (اللستك) فيقوم صاحب البنشر بالمهمة خير قيام ويأخذ أجرته على ما قام به من عمل باصلاح العطل، أما أصحاب ورش الحديد فالرقعة عندهم لترقع بالحديد للمصنوعات الحديدية مثل الأسرة والكراسى والأبواب والشبابيك والترابيز والسياج وغيرها من المصنوعات الحديدية.
وكلمة أمسك الرقعة جعلت حكاية من حلتنا تنقل لكم هذه السياحة اللغوية البسيطة أثرناها هنا مع كلمة ومفردة (الرقعة) التى جاءت فى سياقات مختلفة يفهمها كل صاحب مهنة من المهن على حده وكل منا وبالتأكيد مرت عليه كلمة الرقعة ويعرف عنها ما لايعرفه غيره فالناس فى بلدى لهم من العبارات والكلمات يصعب علينا أن نحصرها أو نجاريها لكثرتها وتغيرها بين وقت وآخر لتعدد الثقافات والبيئة فى بلادنا والتى جعلتها زاخرة بشتى المعارف والعلوم وتعددت إبداعات أهلها فى كل فن من الفنون أو مهنة من المهن.

Comments are closed.