جلبير الأشقر يكتب مأساة السودان العظيمة والمخرج منها

47

لا تني المأساة السودانية تتفاقم، والعالم يكاد يتجاهلها منشغلاً بصورة شبه حصرية بالحرب الدائرة في أوكرانيا، مثلما سبق له أن تجاهل الحروب المروّعة التي توالت خلال عقود على أرض السودان وفي جواره، وكذلك حروباً أخرى أكثر فتكاً بعد في إفريقيا جنوبي الصحراء. وكأنه ترتيبٌ عرقي للاهتمام الدولي، يقضي بأن الاكتراث للنزاعات يتضاءل كلما اسمرّت بشرة المتنازعين وسودت. فيأتي في الصدارة الصراع بين البيض الشقر، أمثال الروس والأوكرانيين وسائر الأوروبيين، يليهم سكان شرقي آسيا، ومن بعدهم بتدرّج سمار البشرة: القوقازيون والشاميون (أكيد أن الحرب الدائرة في سوريا حازت على اهتمام أكبر بكثير من تلك الدائرة اليوم في السودان، ولو كان من حق السوريين أن يشتكوا من قلة الاهتمام بمصير بلادهم، فكل شيء نسبي) واليمنيون، وأهل آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية، والقرن الإفريقي، وصولاً إلى إفريقيا السوداء.

لا تني المأساة السودانية تتفاقم، وقد بلغت حجماً عظيماً إذ تفيد أوساط الأمم المتحدة بأن عدد القتلى زاد عن خمسة آلاف، كما زاد عدد الجرحى عن إثني عشر ألفاً، وذلك في التقدير الأدنى حيث تخمّن الأوساط نفسها أن الأعداد الفعلية أكبر بكثير. كما أصدرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قبل أيام تقريراً جاء فيه تذكير بأن السودان عند نهاية عام 2022، أي قبل اندلاع النزاع بين «القوات المسلّحة» و«الدعم السريع» كان لديه أكثر من 3.7 مليون شخص من النازحين داخلياً، يعيش معظمهم في مخيمات في دارفور. وكان يعيش 800 ألف سوداني آخر كلاجئين في دول مجاورة، مثل تشاد وجنوب السودان ومصر وإثيوبيا. هذا وقد كانت البلاد، في الوقت نفسه، موطناً لأكثر من مليون لاجئ من خارج حدوده، معظمهم من جنوب السودان، انضاف إليهم اللاجئون الفارون من الأزمة في شمال إثيوبيا اعتباراً من أواخر عام 2020، فيما قدم آخرون من إريتريا وسوريا وجمهورية إفريقيا الوسطى.

في الأشهر الخمسة الأولى من النزاع الراهن، فرّ أكثر من مليون لاجئ وعائد من البلاد، بينما نزح 4.3 ملايين شخص آخر داخل السودان بحيث بات يأوي أكبر عدد من النازحين داخلياً في العالم. وإذ أضفنا إلى ذلك أثر الأحوال الجوية المرتبطة بالتغير المناخي، بما في ذلك الفيضانات والجفاف، مما أدى إلى تلف المحاصيل ونفوق الماشية، كما أشارت المفوضية، نكون قد بدأنا بإدراك الخطورة العظمى التي تسم الأزمة الإنسانية التي يعاني منها السودان اليوم. هذا وناهيك بسائر مآسي الحرب، لاسيما مصير النساء المروّع، وهنّ أولى ضحايا الحروب التي يخوضها الرجال.
على هذه الخلفية الهائلة، قدّم ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في السودان، فولكر بيرتس، استقالته قبل ما يناهز الأسبوعين، وهو يحذّر من انزلاق البلاد نحو الحرب الأهلية. والحقيقة أنه انزلاق بدأ مبكّراً، وتصاعد خلال الصيف عندما أعلنت قيادات عشائرية في إقليم دارفور تأييدها «الدعم السريع» داعية أبناءها من العسكريين إلى الانحياز إلى القوات التي يقودها محمد حمدان دقلو. وقد بات السودان منقسماً جغرافياً بين منطقة شرقية تسيطر عليها «القوات المسلحة» ومنطقة غربية يسيطر عليها «الدعم السريع» وبينهما المناطق التي يتنازع الطرفان عليها، بما فيها منطقة الخرطوم.

السودان أخذ يتحوّل إلى ساحة جديدة من ساحات الصراعات الإقليمية والدولية، شأنه في ذلك شأن ليبيا المجاورة

والحقيقة أن بيرتس، ومن ورائه الولايات المتحدة والدول الأوروبية، يتحمّل مسؤولية كبيرة في مآل الأمور في السودان بسبب ضغطه الدائم من أجل مراعاة العسكريين. فعوضاً عن دعم معركة القوى الديمقراطية، وفي طليعتها «لجان المقاومة» في رفضها للانقلاب الذي نفّذه العسكريون بقيادة عبد الفتّاح البرهان في خريف عام 2021، ظلّ بيرتس يضغط في سبيل مساومة جديدة مع العسكر ويتعامل مع البرهان وكأنه ما زال الرئيس الشرعي (سبق وتناولنا هذا الموضوع على هذه الصفحات: «في الجدل حول مبعوث الأمم المتحدة في السودان» 6/6/2023). وهذا ما خوّل البرهان أن يخاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة من على منصتها في الأسبوع الماضي، الأمر الذي استهجنته محقّةً القوى الديمقراطية السودانية.
وبعد، فإلى أين يسير السودان؟ لقد دخل في نزاع له كافة مقوّمات الإطالة: ليس فقط مقوّمات داخلية كخطوط التمايز الإقليمية والإثنية والقَبَلية التي تدفع نحو تحوّل الصراع بين فريقين عسكريين إلى حرب أهلية بين مكوّنات الشعب السوداني، بل أيضاً إمداد الطرفين المتنازعين بوقود الحرب من مال وسلاح. فلا يُخفى على أحد أن السودان أخذ يتحوّل إلى ساحة جديدة من ساحات الصراعات الإقليمية والدولية، شأنه في ذلك شأن ليبيا المجاورة. والحال أن خليفة حفتر نفسه أحد المتدخلين في النزاع السوداني إلى جانب «الدعم السريع» الذي تدعمه أيضاً قوات «فاغنر» الروسية وتسانده الإمارات العربية المتحدة، راعيته القديمة، بينما تتلقى «القوات المسلحة» دعماً من مصر وقطر وتركيا، بل حتى أوكرانيا!

أما المخرج من هذه المأساة فيصعب تصوّره اليوم في ضوء تدهور الأوضاع منذ أن نشب القتال. فإن الداعين إلى وقف القتال والمصالحة بين الفريقين المتنازعين، إنما يحلمون، إذ لم يعد ممكناً على الإطلاق تعايش الفريقين في إطار الدولة الواحدة (ولو حصل وقف لإطلاق النار بينهما مصحوباً بتسوية ما، فإنها لن تعدو كونها هدنة مؤقتة). أما أن تتغلّب «القوات المسلحة» على «الدعم السريع» وتستتب الأوضاع تحت سيطرتها الحصرية، فأمر ليس في متناولها، اللهمّ سوى إثر صراع مديد جداً وبالغ الفتك والتدمير بحيث ينطبق عليه في نهاية المطاف قول المؤرخ الروماني تاسيتُس: «يخلقون صحراءً ويسمّونها سلاماً».
ماذا يبقى إذاً؟ ماذا عن الحل «الفدرالي» الذي دعا إليه دقلو، أي تقسيم جديد لأراضي السودان، يؤدّي إلى نشوء دولة جديدة في غرب البلاد وجنوبها تسودها ميليشيا الجنجاويد المجرمة التي رفع من شأنها عمر البشير بتنصيبها جزءاً من القوات المسلحة الرسمية تحت تسمية «قوات الدعم السريع»؟ إن مثل هذه «الحلّ» إذا كان بإمكانه وقف القتال الدائر حالياً على امتداد البلاد، فهو يعني تصعيد حرب الإبادة والتطهير العرقي في منطقة سيطرة «الدعم السريع» ودارفور بوجه خاص. فالحقيقة هي أنه لم يعد من سبيل إلى وقف غرق السودان في أتون الحرب الأهلية سوى تدخّل قوات دولية برعاية الأمم المتحدة، تفرض وقف القتال وتشرف على مسار الانتقال الديمقراطي الذي يدّعي الطرفان، البرهان ودقلو، أنهما على استعداد للانصياع له، بل يزايد كلٌ منهما على الآخر في التأكيد على استعداده. ولا بدّ لأي حكومة مدنية تنشأ ديمقراطياً في السودان من أن تعيد تنظيم قوات البلاد المسلحة برمّتها في المنحى الذي طالما دعت إليه المعارضة المدنية.

كاتب وأكاديمي من لبنان

Comments are closed.