فكرة البحث عن عقل ما بعد الأزمة

38

بقلم: زين العابدين صالح عبد الرحمن

عندما تقرأ في الأدب السياسي السوداني مقولات لمفكرين سودانيين في عهدهم، و تقارن ذلك بالذي يجري اليوم، تكتشف ضحالة المنتوج الفكري اليوم، و أولئك حتى إذا أختلف المرء معهم سياسيا لكن تحترم أجتهادهم الفكري، لأنه ينطلق من قراءة لأحداث الواقع، ثم يبحث عن كيفية علاجها.. اليوم الأحداث المتصاعدة تجهد الإنسان بالمتابعة، و في نفس الوقت يقل الإنتاج الفكري الذي يساعد على الحلول، و يستبدل ذلك بشعارات تؤكد عجز القدرات الفكرية للقيادات المتحكمة في العملية السياسية،تجعلهم لا يستطيعون التحكم في الأزمة، و يتعاملون معها بالاصطفاف و عمليات الاستقطاب، التي تعمق المشكل.

كان محمد أبوالقاسم حاج حمد يعتقد أن أزمة السياسة المتواصلة في السودان هي في الحقيقة أزمة المثقف السوداني الذي فشل أن يلعب دوره النقدي في المجتمع، يقول حمد في كتابه ” السودان المأزق التاريخي و أفاق المستقبل” ( أن جماعة ” الفجر” التي لم تتحول إلي ” حركة شعبية” بالمعنى الأول قد حاولت ضمن منظورها الخاص أن تسد ثغرة مهمة من البناء الفكري العام لتلك الفئات الوليدة و قد ركزت جهدها على بناء المثقف السوداني) هل استطاعت أن تخلق ” جماعة الفجر” المثقف الذي كانت تبحث عنه لكي يلعب الدور النقدي في المجتع؟ يقول حمد ( وصلت حركة المثقفين إلي مأزقها التاريخي الحقيقي فكفت عن التواصل كحركة مثقفين منفتحة على الفكر العالمي و كفت عن التماسك الذاتي فتلاشت في بحار الطائفية) عندما ذهبت للطائفية وقعت في دائرةكيفية تحقيق المصالح الذاتية الضيقة. لأنها راهنت على جماهير الطائفة، و ليست جماهير تصنعها بالوعي.. هي نفس معضلة الاستقطاب الضيقة التي يقع فيها مثقف اليوم .. أصبح أكثر هتافا من العامة.. لأنه فشل أن يتعامل فكريا و نقديا مع الأزمة..البحث عن الذاتية في الأزمة الوطنية…

يقول عبد الخالق محجوب في كتابه ” إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير” ( البرجوازية الصغيرة و خاصة في المدن تسلك سبيل الدراسة المعزولة، و تجنح إلي الفصل بين النظرية و العمل،و مرجعها النصوص دائما لا الحياة، و متطلباتها.. و تحاول بهذا الفهم أن تخضع الحياة للنصوص) كأن محجوب يتنبأ بالمستقبل، رغم أن نقده ارتبط بحركة الواقع و كيفية التعامل معه، باعتبار أن الحياة هي مصدر أساسي لعملية التجديد الفكري،و تطور نصوصه.. فاليوم نجد أن الطريقة التي تسلكها قيادة الحزب الشيوعي هي تحاول إعادة قراءة النصوص لمعرفة إفرازات الواقع، و الذي تحدث فيه متغيرات اسرع من طريقة تفكير تلك القيادات.. حتى الآن غير معروف ماذا تريد القيادة الاستالينية؟ هل تريد إعادة تدوير الثورية مرة أخرى بعد الحرب، أم إنها تنتظر أن توقع معها قوى جديدة تنجز بها شعار الجذرية.. أليس من الأفضل لها أن تتنحى و تفسح الطريق لقيادات جديدة من الشباب، قادرة أن تنظر لمقولة عبد الخالق بفكر متقد، و تحاول أن تتعامل مع الواقع و أفرازاته بأجندة مغايرة، و تدفع لتقديم مشروع سياسي يعيد الجميع لطريق الحوار الذي يخلق التوافق الوطني، بهدف تأسيس نظام ديمقراطي يتعايش فيه الجميع. إليس عبد الخالق نفسه في كتاب ” الماركسية و قضايا الثورة السودانية” قال ( أن جوهر المشكلة في السودان هو تفجير الثورة الديمقراطية) و المصطلح الأخير هو المعني كيفية تحقيق الديمقراطية، هذه لا تتم بالصراع الطبقي، و لا بالثورية التي ليس لها أدنى علاقة بالديمقراطية، أنما تتم بشروط الديمقراطية و أدواتها فقط، فالذي يريد تحقيق الديمقرطية لا يخلط أوراقها مع أفكار التي تؤدي إلي الديكتاورية..

يقول محمد على جادين في أحدى حواراته الفكريةمع الاتحاديين في أم درمان في منزل المرحوم محمد محجوب عبد الرحمن، قبل أن تبدأ إرهاصات ” خطاب الوثبة” الذي دعا فيه البشير ” لحوار وطني” قال (أن الأفكار وحدها هي التي تنشل السودان من الإزمة السياسية التي يعيش فيها، و أن تحالف الضعف بين المكونات سوف يستمر و يشكل خطرا على مستقبل السودان، و الضعف ناتج عن عجز النخب السياسية على التفكير المنطقي و الاجتهاد الذي يقدم أفكارا جديدة، أما حالات الاستقطاب السائدة بين قوى الاجماع الوطني و نداء السودان تتحكم فيها مقدرة كل مجموعة على استقطاب أكبر كتلة جماهيرية.. و قال هذه غير متاحة.. لأن الصراع بين الكتل و الأحزاب فيما بينها أعمق، و لا تستطيع أن تخرج منه لأنها عاجزة أن تنظر للمستقبل، و الذي يريد أن ينظر للمستقبل بالضرورة أن يفكر بعقلانية لمعرفة كيفية الوصول إليه، و ما هي متطلباته، و الأدوات المطلوبة إلي إدارة الفعل الإيجابي) رحل جادين، و بقيت مقولته ساطعة كضوء الشمس.. أن ضعف القوى السياسية ناتج من ضعف القيادات التي صعدت لقمتها، و هي عاجزة أن تقدم أفكارا جديدة تحدث بها أختراقا في أزمة الوطن.. و ما يزال البحث جاري عن عقل يعالج أزمة الضعف الفكري و السياسي…

أن الذين ينادون بهدم دولة 56 هؤلاء لم يدرسوا تاريخ السودان جيدا.. إذا أخذنا الذين تخرجوا من كلية غردون التي أسست 1902م  و ينسب إليها التعليم الحديث في السودان، نجد أن دور الخريجين في النضال الوطني يؤكد على قدرتهم السياسية التي اكتسبوها في فترة ضيقة، من المعرفة و كيفية إدارة الأزمة، و حققوا الاستقلال في أقل من نصف قرن.. أما إذا أخذنا “مؤتمر الخريجين 1938”  بداية بالوعي الوطني و النضال من أجل الاستقلال، نجد أن قيادة مؤتمر الخريجين قد حققوا الاستقلال في اقل من 20 سنة.. و لكن النظم الشمولية و الانقلابات لم تجعلهم يحققوا أهدافهم.. أما استمرار الأزمة السياسية هي مسؤولية الأجيال التي تعاقبت و فشلت في تطوير العمل السياسي، فشلت أن تجلس و تتحاور لكي تصل لمشتركات، فشلت في خلق بيئة صالحة للتفكير المعافى. و يجب على النخب السياسية أن تعترف بفشلها، بدل أن تبحث عن شماعات تعلق عليها الفشل، و تفسح المجال لقيادات جديدة ربما تستطيع أن تحدث تغييرا في طريقة التفكير أولا… نسأل الله حسن البصيرة..

Comments are closed.