البرهان واليسار و معركة المصطلحات
بقلم: زين العابدين صالح عبد الرحمن
انتقد الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة و القائد العام للجيش عددا من الممارساتالتي يعتقدها سالبة داخل الخدمة المدنية، و أخرىتتعلق بالتظاهرات الشعبية و التي يحدث فيها ممارسات من حرق للساتك و خلع للانترلوك وإغلاق للطرق.. و قد وجدت أنتقادات البرهان،انتقادات من قبائل اليسار، و الذين يسيرون في ركبهم،.. و كان المتوقع أن تخضع الأحزاب السياسيةحديث البرهان للتحليل و الدراسة لكي توضح موقفها منها، و في اية مرحلة هذه الممارسات مطلوبة، و متى تتوقف، لكي تخلق حوارا فكريا في الساحة السياسية، بدلا من أحاديث الغضب التي لا تحمل في أحشائها أية مدلولات معرفية، و لا تثقيف يفيد العامة، إذا كانوا بالفعل مؤمنين بقضية الديمقراطية.. حتى تستثمرها في خلق وعي سياسي وسط الجماهير بدلا من تركهم.. كما يقول القرآن ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) صدق الله العظيم..
بعض القيادات السياسية تحدثت حديثا عاطفيا تحاول من وراءه فقط كسبا سياسيا، تعتقد أنها فرصة لاستمالة الجماهير لها في معركتها المناصرة للميليشيا.. و يريد أخرون كسبا معنويا أن يطلق عليهم صفة التقدميين، هذه الوصفات التي ذهبت أدراج الرياح عندما انتهت الحرب البارد و سقط الاتحاد السوفيتي.. و أيضا النظامين الشموليين في كل من بغداد و دمشق.. القضية التي طرح البرهان متعلقة بمستقبل البلاد السياسي و عملية الإعمار.. أن انهيار الخدمة المدنية تم عندما أطلق اليسار بعد ثورة أكتوبر “شعار التطهير” الذي أصاب الخدمة المدنية في مقتل، حيث مارسته حكومة أكتوبر التي كانت تسيطر عليها “جبهة الهيئات” و التي يسيطر عليها الحزب الشيوعي.. و هي التي أدخلت الخدمة المدنية في الصراع السياسي.. ثم مارسها اليسار مرة أخرى بعد انقلاب مايو 1969م، حيث تم عزل أغلبية قيادات الخدمة المدنية… ثم جاءت الجبهة الإسلامية لكي تخربها تماما عندما طردت عشرات الآلاف من موظفي الخدمة المدنية.. هذه الممارسات هي التي أطاحت بالخدمة المدنية و أدخلت فيها تعين آهل الولاء و المحسوبية. لذلك فقدت الخدمة هيبتها و احترامها..
إذا كان أهل اليسار و الذين يسيرون في ركبهميعتقدون أنهم بعد وقف الحرب سوف يدعون لثورة أخرى للتغيير هذا حقههم،.. ينادوا بالثورة و تعبئة من يعتقدون أنهم ثوريين للإطاحة بالسلطة القائمة.. رغم أن المنطق و التاريخ يقولان، أن الشعب الذي خرج من ثورة ثم حرب ضروس لا يكون لديه الاستعداد أن يدخل في معركة عنف سياسي، لأنه مجهد من النواحي النفسية و المالية، و يشكك حتى في القيادات السياسية التي فشلت أن تصون لهثورته.. أما إذا كان الاتجاه و الفكرة الشعبية الذهاب في طريق الاستقرار و الأمن و التعمير و النهضة و الديمقراطية لابد أن تسقط مصطلحات ” الثورة و الثورية” لأنها تتناقض مع الدعوة للديمقراطية، و التي تؤسس على الدستور و القوانين و اللوائح، فهي التي يحتكم لها الناس.. فالثورية عمل مناهض للقوانين، و أي فعل مناهض للقوانين يقدم صاحبه للعدالة..
بعد تشكيل حكومة حمدوك الأولى و الثانية التي جاءت بموجب وثيقة دستورية، كانت تخرج مظاهرات نهارا و ليلا تغلق الشوارع و تحرق الساتك و تخلع الانترلوك من الشوارع و كلها افعال يعاقب عليها القانون لأنها تخريب.. الغريب في الأمر خرج بعض الكتاب السودانيين الذين يعيشون في الدول الديمقراطية ” أمريكا – كندا – استراليا –أوروبا” ينتقدون حديث البرهان أتحداهم جميعا أن يؤكدوا؛ إذا كان يسمح للمتظاهرين في هذه الدول الديمقراطية جميعها بحرق اللساتك، أو خلع انترلوك، أو قطع أغصان الإشجار، أو إغلاق الشوارع، أو أي ممارسات تعيق حركة السير، أو تضر بمصالح الناس.. من يلجأ لهذه الممارسة ليس يعتقل فقط بل يقدم للمحاكمة مباشرة، لأنها أفعال عنف و تخريب، و ليس لها علاقة بالممارسة الديمقراطية.. الحق الديمقراطي الذي يكفل للشخص أو الجماعة المتضررة هو “ حق التعبير و حق التظاهر السلمي و حق التقاضي أمام القانون و حق الإضراب عن العمل” و لكن لا يسمح بأي فعل يفهم بأنه يؤدي إلي العنف…
لا تفيد الشعب السوداني مخلفات ثقافة الحرب الباردة، و محاولة إستلافها من الشعوب التي هجرتها في أوروبا الشرقية، و في النظم السياسية الريديكالية العربية التي سقطت و كانت تؤمن ” بالأشتراكية و الوحدة و الحرية” هذا الثالوث الذي لا رابط بينهم.. رغم الإدعاء بأنه محكوم بربط جدلي، و لكن لم تتحقق في هذا الثالث أية منهم فى الدول التي كانت ترفعه، بل كانت نظما ديكتاتورية، لا يسمح فيها حتى بحق التظاهر السلمي.. هذه الثقافة السياسية التاريخية نفدت فاعليتها في أماكن ولادتها.. لماذا مصر اليسار التعامل بها و هي لا تخلق وعيا سياسيا بل تخلفا وسط الجماهير.. هناك بعض الشباب يعتقدون أنهم ديمقراطيون لأنهم ثوريون رغم أن المصطلحين في حالة تضاد، حقيقة هذا هو الوعي الزائف في المجتمع..
أن اليسار إذا كان عروبيا أو ماركسيا يعيشا في أزمة سياسية فكرية و تنظيمية، لذلك لا يستطيع أن يسهم في ثقافة سياسية ديمقراطية لا يملكها، و سوف يظل محافظ على ثقافة الحرب الباردة التي تخطتها البشرية بعقود من الزمن.. و يعتقد آهل اليسار أن تصحيح الفهم للمصطلحات و كيفيةاستخدامها سوف يخسرهم الكثير، لذلك سوف يظل يطرق عليها غير مباليا.. و السياسين الذين خرجوا يدافعون عن حرق اللساتك هؤلاء يحاولون الاستفادة من المفاهيم المغلوطة في الشارع و استمالة الأجيال الجديدة.. الغريب في الأمر أن بعض القوى التي تعتقد هي ديمقراطية تقع في ذات الفخ، و بعض منهم جاء مهاجرا من ساحات اليسار لذلك أحتفظ بهذه المصطلحات لأنه يعتقد نفسه تقدميا عند ترديدها.. أن التحول الديمقراطي ينجح عندما تكون النخب واعية لرسالتها، و مدركة لدورها، و لا تمارس الاستهبال السياسي.. نسأل الله حسن البصيرة..