الزين صالح يكتب: الصراع السياسي على فكرة غائبة

100

بقلم: زين العابدين صالح عبدالرحمن

إذا كانت العلوم الاجتماعية تؤسس فيها المعرفة على منهج علمي يرصد الظاهرة ومتابعتها، ووضع الفرضيات وقراءة هذه الفرضيات على سياق المنهج البحثي وكذلك العلوم التطبيقة تستخدم ذات المنهج العلمي الذي يدرس الظاهرة ويتابعها عبر التجارب والتطبيق، أما السياسة تؤسس على الفكرة، وكيفية تنزيل الفكرة للواقع، بهدف الوصول للنتائج التي تؤدي للأستقرار السياسي والنهضة بهدف أن يعيش الناس الحياة الكريمة والترفيه لكن الغريب في الأمر أن الصراع في سودان تغيب عنه الفكرة.

 

أن العقل السياسي بعد الاستقلال أهمل الفكرة تماما، رغم أن الفكرة هى التي جعلت القوى السياسية تحقق الاستقلال. وكان يجب عليهم أن يحافظوا عليها، لكي تنقلهم من حالة التحرير لمرحلة التعمير. لكن فشل العقل السياسي أن ينجز مرحلة الانتقال. حيث فتنتهم السلطة. وتبنوا فكرتها لكي تملأ الفراغ السياسي الذي يخلفونه، وظل الصراع مستمرا من أجل السلطة، وتعثرت عجلة الديمقراطية، لآن السلطة أدخلت لاعبا جديدا (الجيش) استطاع أن يجعل ميزان القوى يميل لصالحه.

 

الغريب في الأمر: أن العقل السياسي لم يستطيع استيعاب العلاقة بين العسكريين والمدنيين، من خلال التجارب المختلفة التي مرت على الدولة، حيث كانت الأحزاب تحرض عناصرها داخل المؤسسة العسكرية بعمل انقلاب، ثم تختلف معها حول من يسيطر على السلطة، وتنهزم القوى المدنية، لسببين الأول ميل ميزان القوى للعسكرين باستخدامهم الأداوات العسكرية. الثاني لأنها تعجز أن تقنع الشارع أن يقف معها في هذا الصراع، و لغريب في الأمر أنها تخرج من المعركة خاسرة تنظيميا ومعنويا، ولكنها لا تقييم تجربتها، ولا تستفيد منها تاريخيا، وتقع مرة أخرى في ذات الأخطاء ثلاث ورباع.

 

بعد عزل البشير بالقوة العسكرية التي تقبض عليها اللجنة الأمنية، كان المتوقع: بعد التوقيع على (إعلان الحرية والتغيير) أن تجلس كقوى متحالفة رغم أنها تختلف في توجهاتها السياسية أن تجلس وتتوصل إلي اتفاق الحد الأدنى (المشروع السياسي للفترة الانتقالية) التي تشكل خارطة طريق، وتحاسب علي ضوئها القوى السياسية، لكنها للأسف أنها أهملت الفكرة، وتبنت فكرة السلطة التي جاءت بمصطلح (المحاصصات) وهي فكرة تنتج دائما عوامل الصراع المستمر فالسلطة التي تجمع تيارات مختلفة، وقوى متباينة مدعاة للصراع، خاصة تتحكم فيها المصالح الحزبية والشخصية. الأمر الذي جعلها تصل أيضا لمساومة سياسية مع العسكر عبر اتفاق تم رعايته من الخارج. وتظل الفكرة في دائرة السلطة، الأمر الذي أفرز كل هذه الأزمات.

 

وكما يقول المفكر ديفيد هيوم: أن الإبداع العقلي هو الوصول للفكرة الإيجابية في صناعة المستقبل. والفكرة سوف تتداع لها الأفكار الأخرى. أي أنها لا تقف في حدودها؛ ولكنها تفرز أفكار توسع دائرة الفكرة، لكي ترسم ملامح مشروع الفكرة المستقبلي. فهل العقل السياسي السوداني يعيش الآن حالة من الجمود؟ أم أن العقل قد تم توظيفه في قضايا هامشية أو مصالح خاصة تظهره بمظهر القدرات المتواضعة غير القادرة على استنباط الحلول؟

 

الآن البلاد تعيش في أزمات تقبض بخناق بعضها البعض، دون أن تتفتق على فكرة تستطيع أن تنقل البلاد لعتبة جديدة. ظل العقل السياسي يركن للمنهج التبريري حتى لا يعترف باخطائه، وغير قادر على إدراك تناقضات الواقع، لكي يستطيع أن يقدم تحليلا صائبا يفتح منافذا لدخول الهواء النقي الذي يساعد على تحريك هذه العقول في الاتجاه الصحيح.

 

وإذا نظرنا لواقعنا بعين فاحصة، ومراقبة الساحة السياسية نجد أن الغائب ( الفكرة والمفكر) لآن دور المفكر أن يحدث أختراق في الجدل السياسي الدائر الذي لا يقدم حلولا لكي يخلق واقع جديد للتفكير، من خلال طرح أسئلة جديدة في المجتمع، لكي تنقل الناس لمربعات متقدمة. هذا الغياب له أثارا سالبة في الساحة السياسية، أنه يكرر الموضوعات بشكل يؤدي إلي الملل، ويخلق حالة من الاستقطاب الحاد التي يغيب فيها دور العقل، وتصبح الاتهامات والخروج على الموضوعية مسألة عدمية، تنتج العنف اللفظي بين المتحاورين. الأمر الذي يخلق وعيا زائفا في المجتمع غير مستند على حقائق ولا معلومات صحيحة.

 

أن الساحة السياسية لكي تخرج من أزمتها تحتاج لطريقة جديدة في التفكير، هي في حاجة أن تسقط كل حمولاتها التاريخية من الإرث الثقافي السياسي الذي خلف تراكمات من الفشل. أن الرهان على الأجيال الجديدة ليس من باب صغر أعمارهم، و لكن أن يأتي هؤلاء بطريقة مخالفة للتفكير الذي كان سائدا و مايزال مستمرا بعثراته، جيل يفكر خارج الصندق الذي تمت صناعته منذ الاستقلال ومايزال باق يحمل كل إشكاليات الأجيال السابقة وفشلها، جيل ينطلق من منصات المعرفة والمناهج العلمية لكي يغير حتى لغة الخطابات السياسية السائدة. وننتظر. نسأل الله التوفيق.

Comments are closed.