عوامل انهيار الدولة السودانية

113

بقلم الأستاذ/ المحامي حاتم جعفر
من أبجديات الفكر السياسي الراقي أن الدول إنما تنشأ على الأفكار، فالدولة الرومانية نشأت على أفكار الحضارة الرومانية القديمة، ومنها فكرة الديمقراطية. والدولة الإسلامية التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة نشأت على عقيدة الإسلام، وما جاء به الوحي العظيم. كذلك كان الأمر بالنسبة للثورة البلشفية 1917م ونشوء الدولة الشيوعية على أساس المبدأ الاشتراكي. وكان نشوء الدول الاستعمارية المتحكمة في عالمنا اليوم على أساس عقيدة فصل الدين عن الحياة، ومنها الدولة، والنظام الديمقراطي والحريات وغيرها لذلك كانت الدول تنشأ بنشوء أفكار جديدة، ويتحول السلطان فيها بتحول هذه الأفكار.

أما نشوء السودان بوصفه دولة وطنية فقد كان على يد المستعمر الإنجليزي الذي خط حدوده بوصفه دولة مستعمرة يديرها عملاؤه الذين صنعهم على عين بصيرة.
لقد دبت عوامل ضعف الدولة السودانية وتنذر بانهيارها منذ وقت مبكر، حيث إن عوامل الضعف التي تنذر بانهيار الدولة السودانية هي عشرة كاملة، تصنف إلى قسمين هما:

القسم الأول: العوامل التي زرعها الكافر المستعمر بنفسه وأشرف عليها وتعهدها قبل أن يخرج بجيوشه فيما يعرف استحماراً بالاستقلال وهي:
1- تأسيس السودان على أساس مبدأ المستعمر ووجهة نظره في الحياة؛ أي على أساس فصل الدين عن الحياة ومنه فصل الدين عن الدولة، فجعل أنظمة الحياة وتشريعاتها، ومناهج التعليم والإعلام، بل وحتى خطاب بعض المساجد يركز لحضارة الغرب المستعمر وقيمه وذلك يتناقض مع عقيدة أهل البلاد، ما يوجد حالة من الانفصام عند المسلمين، ويبرز التناقض التام بين عقيدتهم وأنظمة حياتهم. بالإضافة إلى أن الحضارة الغربية تفتقر إلى عوامل صهر الناس في أمة واحدة، وتجلب الفقر والعوز، وتطبيق المبدأ الرأسمالي استعبادٌ للشعوب.

2- وضع الإدارات الأهلية وزعماء القبائل والعشائر بوصفهم من جهاز الدولة المناط به رعاية الشؤون حالة شاذة تسهم في تفرقة الناس، وإحياء النعرات، إذ الأصل في القبيلة أنها للتعارف وصلة الأرحام، ويجب على قادتها أن يضعوا سلطان القبيلة في خدمة الإسلام والمسلمين، كما فعل الأوس والخزرج في المدينة المنورة.

3- تقسيم الأراضي بما فيها من أحراش وغابات ومراعٍ على أساس القبيلة، لتكون لكل قبيلة أرض مرسومة الحدود فيما يعرف بالحواكير ليكون ذلك مجلباً للصراعات والنزاعات، ومانعاً من انصهار الناس في أمة واحدة تشهد شهادة الحق كما أراد لهم المولى عز وجل: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾، وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وكما أراد لهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «…وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ».

4- صناعة أحزاب وطنية تتبنى مشاريع الكافر المستعمر، وتحافظ على أنظمته وتشريعاته، وتحفظ حدود المستعمر فتركز انقسام الأمة، وعلى الرغم من أن هذه الأحزاب بدأت بصبغة قومية إلا أنها لم تسلم من جائحة العنصرية القبلية، وتنازع ولاء قياداتها بين سفارات المستعمر، فانتهى بها المطاف إلى مِزق، وشظايا متناثرة، عاجزة عن فعل أي شيء.

5- الحركات المسلحة المتمردة على كيان الدولة، والتي أطلق الكافر المستعمر شرارتها في أغسطس 1955 قبيل خروج جيوشه من السودان، لتنجح عبر بوابة خيانة الحكام والوسط السياسي العميل في فصل جنوب السودان، لترسي سابقة تمزيق الممزق من بلاد المسلمين الناطقة باللغة العربية، وتركز للمحاصصات في السلطة والثروة على أساس الجهة والعرق والقبيلة، لتدق المسمار قبل الأخير في نعش الدولة الوطنية، ليبدأ عصر جديد من تمزيق الممزق، وتفتيت المفتت على أساس حدود الدم، خدمة للاستعمار الجديد بقيادة أمريكا، خاصة مع وجود هذه الحركات والمليشيات المتعددة سلاحها لخدمة مطامعها في الثروة، أو لخدمة القبيلة، أو العرق، أو غيرهما، ما يجعل الاقتتال يتجدد يومياً خاصة في دارفور وكردفان.

أما القسم الثاني: فهي العوامل التي أفرزها الصراع الدولي على النفوذ في السودان، وعمالة الحكام والوسط السياسي وارتباطهم بالسفارات الغربية التي تلعب دوراً في انهيار الدولة السودانية وهي كما يلي:
1- تبني الفيدرالية والحكم الذاتي لأقاليم البلاد المختلفة بوصف هذه الأفكار معالجات، بعد أن أغرقوا أهل البلاد في سوء الرعاية، والمظالم التي لا تحصى ولا تعد، ما ينذر بانهيار الدولة السودانية، بعد أن تُضعِف الفيدرالية والحكم الذاتي كيان الدولة، وتؤسس لأشباه دول منفصلة في هذه الأقاليم.

2- لعنة الثروة، فقد حبى المولى عز وجل بلادنا بكثير من الموارد والثروات الظاهرة والباطنة، والتي تبشر عند قيام دولة مبدئية؛ خلافة راشدة على منهاج النبوة، بسرعة تحولها إلى دولة عالمية قوية منذ إعلانها، لكن مع الأسف فإن هذه الثروة تحولت إلى نقمة وبخاصة الذهب، والذي لأجله تقوم الحركات المسلحة والمليشيات تحت سمع وبصر الدولة، بتهجير وإبادة القرى في دارفور وكردفان.

3- الخطاب السياسي العنصري، فعلى الرغم من أن العمل السياسي هو أرقى الأعمال، لأنه يخرج الإنسان من دائرة الاهتمام بنفسه إلى الاهتمام بغيره، لكن لما كان الوسط السياسي هو نادٍ للعملاء، وأهل الريب المترددين على سفارات الأعداء، وقيادات الحركات المسلحة والمليشيات، انحط الخطاب السياسي ليصبح خطاباً عنصرياً، ومن ذلك خطاب أردول لأهل شرق السودان بمطالبته للأقاليم التي حكمت السودان بالاعتذار عما تسببوا به لأهل السودان من حروب أهلية، وحديث حميدتي عن أن الكرسي الذي يجلس عليه لم يكن متاحاً لأهل دارفور. وهكذا تحول الخطاب السياسي إلى خطاب تحريضي بعيدا عن مخاطبة القضايا الحيوية التي يحتاجها أهل السودان.

4- إثارة الجهويات والعرقيات والقبليات، وجعلها أساساً للعمل السياسي، وللمطالبة بالحقوق، ومن ذلك أحداث شرق السودان، ودارفور وكردفان، وانتقال العدوى إلى غيرها من الأقاليم.

5- جعلُ سبيلٍ للكافر المستعمر على المسلمين، وتحكيمه في كل قضايا البلاد، ووضعها تحت الوصايا الدولية، باستجلاب بعثة اليونيتامس، ورهن البلاد وثرواتها لصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ليورثوا أهل البلاد فقراً وجوعاً، ويسهلوا نهب ثرواتهم ومقدراتهم.

هذه عشرة كاملة ما حلّت بدولة إلا وجعلتها أثراً بعد عين، وإنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنب بلادنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يقيض لنا أمر رشد يحدث تغييراً حقيقياً يوصل الإسلام إلى سدة الحكم؛ خلافة راشدة على منهاج النبوة.

Comments are closed.